قصة وحدث: #بنت_الهدى.. اغتيال ’زينب’
سحر صالح ..
ولدت العلوية آمنة حيدر الصدر "بنت الهدى" في مدينة الكاظمية في العام ١٣٥٧هـ-١٩٣٧م، ..لم يتجاوز عمر آمنة الستة أشهر حتى فارق والدها الحياة، لتعيش يتيمة في كنف والدتها وأخويها السيدين إسماعيل..، و محمد باقر..ذلك الذي نشأت معه وتعلقت به حتى صارت تدور في فلكه حبًا.. هو الأخ والمرجع والأستاذ و الصديق.. كان حسينها؛ وكانت زينبه..تشاركه التفاني في خدمة الإسلام في وسط موبوء بالإلحاد، و التحلل من القيم و الأخلاق.. صار يرشدها، وهي تشد أزره.. حتى جمعهما قدر الشهادة الذي تمنياه معًا، ..ومن الجمال أن نموت مع من نحب! .. موتًا يحبه الله..إنه موت للحياة الفانية و انطلاق في آفاق العالم الأبدي.." وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"...
تعليمها في البيت..
كانت العلوية آمنة فتاة ذكية،..ورغم أنّها لم تلتحق بأي مدرسة رسمية، فقد تعلمت كل ما يمكن أن تتعلمه طالبة في تلك المدارس و أكثر، ..إذ حرص أخواها ووالدتها على تعليمها، فتعلمت على أيديهم القراءة والكتابة والحساب، وأتمّت دراسة المناهج الرسمية كما درست علوم النحو والمنطق والفقه والأصول وغيرها من العلوم الدينية..
ويُنقل عن والدتها أنها كانت تهتم بالقراءة ..إذ تنفرد في غرفة خاصة من أجل القراءة والتأمل..
العرس أم الكتاب!
دُعيت العلوية يومًا لحضور حفل زفاف، وكانت حينها صبية في عمر الثانية عشر، ..كان حذاؤها ممزّقًا، وليس لديها مبلغ لشراء حذاء آخر سوى مبلغ بسيط كانت ادّخرته لشراء كتاب تقرؤه نهاية الشهر، فأبت نفسها أن تصرف مال الكتاب لشراء الحذاء، وفضّلت عدم الذهاب للعرس، لأن ذلك المال الوحيد البسيط الذي تملكه لو صرف في سبيل لذة آنيّة لفتاة بعمرها، ستُحرم لذة العلم والمعرفة التي تغني عقلها، وتبقى آثارها الجميلة معها لفترة طويلة..
"بنت الهدى" الكاتبة والأديبة..
امتلكت العلوية "بنت الهدى" موهبة الكتابة التي لاحظها أخواها لاسيما في رسائلها لوالدتها عند غيابها عنها، فتعاهدوا تلك البذرة فيها بالرعاية حتى نمت، وأزهرت أشعارًا وقصصًا ومقالات في سبيل الدعوة للإسلام، ..وكان أسلوبها في الكتابة عذبًا وبسيطًا واضحًا.. هدفه إيصال الفكرة بلطافة القصة، وبلاغة الشعر، وصدق الكلمة..
الرحيل إلى النجف..
في الحادية عشرة من عمرها تسافر "بنت الهدى" مع أخويها إلى النجف الأشرف لتدرس هناك العلوم الحوزوية، و تستزيد من معين الكتب الذي فتح آفاق قلبها وعقلها على هموم مجتمعٍ تتنازعه التيارات المختلفة، فتضيع المرأة فيه بين مدعّي التحضر والحرية، والأفكار الإلحادية..
في خدمة الإسلام..
تنامى عند العلوية آمنة الشعور بالمسؤولية تجاه مجتمعها، وتجاه النساء على وجه الخصوص، فنذرت نفسها في خدمة الإسلام رافضة الزواج من كل من تقدم لها من علماء أفاضل، لتعطي كامل مالديها للعمل الرسالي ..
هذه "بنت الهدى" التي يقول في حقها الإمام الخميني : "كانت من أساتذة الأخلاق و مفاخر العلم والأدب"، كانت المربية الفاضلة لنساء مجتمعها، والمفكرة الإسلامية التي ألَّفت في العديد من المواضيع المهمة كموضوع الحجاب، و الشبهات الواردة حول حرية المرأة، والمساواة بين الرجل والمرأة ..فضلا عن ردودها على الشبهات التي تطرحها التيارات الإلحادية حول وجود الله فكانت تدافع عن الإسلام بعشقٍ وتفانٍ، فأثّرت فيمن حولها من النساء اللاتي صرن يحذون حذوها وصارت هي القائدة والقدوة..
قسمًا و إن مُلئ الطريق *** بما يعيق السير قُدما
قسمًا و إن جهد الزمان*** لكي يثبّط فيَّ عزما
أو حاول الدهر الخؤون *** بأن يريش إليَّ سهما
و تفاعلت شتّى الظروف *** تُكيل آلامًا و همّا
فتراكمت سُحبُ الهموم *** و إن غدت قدماي تُدمى
كَلَّا و لن أدع الجهاد *** و غايتي أعلى و أسمى
الإشراف على مدارس الزهراء ..
في العام ١٩٦٧م، تمّ اختيار العلوية "بنت الهدى" للإشراف على مدارس الزهراء في بغداد والكاظمية، والتي كانت تابعة في ذلك الوقت لـ "جمعية الصندوق الخيري الإسلامي".
فوضعت "بنت الهدى" المناهج التربوية لمدارس الزهراء، التي تحوي مبادئ وقيم الإسلام لاسيما تلك التي تحتاجها المرأة، كما دأبت العلوية على إقامة الندوات الأسبوعية والشهرية في المدارس التي تشرف عليها..
ومن موقعها كمربية وأستاذة انفتحت على الفتيات تستمع لهن، وتحيطهن بالرعاية، و تسعى في حل مشاكلهن العامة وحتى الخاصة والعائلية، فأحببنها، وصارت لهنّ قدوةً ومثلًا أعلى ..و تعدى أثرها عليهن للتأثير على عوائلهن..
ومن هنا استشعر النظام العراقي خطر وجود هذه المدارس التي صارت تُخرج فتيات واعيات بما يحيط بهن، راغبات في تغيير مجتمعهن و إصلاحه، ..فعمد إلى إقفالها في العام ١٩٧٢م، بقرار صادر من أعلى سلطة رئاسية آنذاك.
وضعت الحكومة العراقية المدارس التي كانت تشرف عليها العلوية تحت إدارة وزارة التربية البعثية، وألغت المناهج الإسلامية فيها، وفِي محاولة لإخفاء ماقامت به من ابتزاز وتسلط أبقت الحكومة على بعض العاملين بتلك المدارس، و طلبت من العلوية "بنت الهدى" البقاء لكنها رفضت رفضًا قاطعًا، وقالت حين سُئلت عن سبب رفضها.."لم يكن الهدف من وجودي في المدرسة إلا نوال مرضاة الله، ولمّا انتفت الغاية من المدرسة بتأميمها، ..فما جدوى وجودي بعد ذلك!"..
إدارة المدرسة الدينية في النجف..
تسلّمت العلوية "بنت الهدى" مهام الإشراف على المدرسة الدينية الخاصة بالبنات، التي أسسها المرجع السيد أبو القاسم الخوئي، و استمرت في إدارتها مدة عشر سنوات إلى أن أُغلقت المدرسة من قبل النظام العراقي العام ١٩٧٢م ..
البعث يقتل صديقة العلوية ..
كان لدى العلوية "بنت الهدى" صديقة مؤمنة ترافقها في أنشطتها الدعوية وتعينها، و كان لتلك الصديقة قصة مؤلمة من تلك القصص التي تفنّن النظام البعثي في صناعة أحداثها المُرعبة والمأساوية.. تلك الصديقة هي الشهيدة الدكتورة سلوى البحراني التي كانت تعمل في جامعة بغداد..
اعتُقلت سلوى لإجبار ابنها المتهم بالانتماء لـ"حزب الدعوة" على تسليم نفسه، و أُطلق سراحها، وبعد أيام ظهرت عليها علامات التسمم، و توفيت!..
التيار الرسالي..
و لأنها كانت تحاكي قلوبهن، و تعيش همومهن، و تُشبع فضولهن للعلم والمعرفة ..ترد على الأسئلة والشبهات التي يطرحنها بحب و تفهُّم.. كوّنت "بنت الهدى" تيارًا من الفتيات الرساليات، فانتشرن في الجامعات ناشرات لثقافة الحجاب الذي كادت تخلو منه أروقتها، فلا ترى فيها إلا فتيات سافرات..حيث كان الدخول للجامعة آنذاك سببًا في خلع الكثير من الفتيات للحجاب، و ارتدادهن عن مبادئ الإسلام.. لم يكن ذلك قصورًا في تربيتهن بقدر ما كان تأثرًا بالهجوم الممنهج للأفكار الشيوعية و الإلحادية..
" الحجاب ليس كما يتوهم البعض من أنّه ختم ملكيّة المرأة للرجل، فإنّ المرأة و الرجل من الناحية الإنسانية سواء..فالرجل إنسان وذكر والمرأة إنسان وأنثى، وكل منهما بوصفه (إنسان) يُسمح له بالمشاركة في خدمة المجتمع .."
"وفي النواحي التي يتحتّم على المرأة التستر فيها يتحتم على الرجل ذلك أيضًا،...وبما أنّ جاذبية المرأة و سحرها أقوى وأشدّ من جاذبية الرجل و سحره كان حجاب المرأة أوسع وأشمل من حجاب الرجل."
"فالمرأة التي تظهر في المجتمع بمظهر إنسانة بدون إشارات و هوامش تشير إلى أنوثتها، تكون مساوية للرجل. على عكس المرأة الغربية التي إن قال لها الرجل إنها حرة في تصرفاتها وفي كل شيء، تكون في الواقع مقيدة بإرضاء (الرجل) أيّ رجل كان؛ وإشباع رغباته، إذ فرض عليها تظاهرها بأنوثتها باسم الحرية، على ما يتطلب ذلك من تعب و جهد وعلى ما يستنفد ذلك من وقت المرأة"
" ...و أنا لا أريد أن أقول أنّ من مستلزمات الأناقة التبرج، أو أنّ التبرج من مستلزمات الأناقة، ولا أريد أن أدعو إلى التقشف، و لكني أريد أن أنبه اللاتي جعلن في التبرج والتأنق عماد شخصيتهن أنّ الواقع يؤكد أنّ هذا شيء ثانوي لا يعدو كونه إرضاءً لـ (الرجل) و لو بسبعين واسطة".
الندوة الإسلامية..
كانت العلوية الشهيدة تقيم ندوة إسلامية فكرية عامة تحضرها الكثير من الفتيات الجامعيات، و المدرسات، و غيرهن من صاحبات الشهادات العلمية، و المثقفات، تطرح خلالها حلولًا، وتناقش الإشكاليات التي شتّتت المفاهيم لدى المرأة المسلمة، وأرادت سلبها الدور الرسالي الذي يقع على عاتقها..
أحيوا أمرنا..
حرصت العلوية "بنت الهدى" على إحياء المناسبات الإسلامية بالاحتفالات، وكانت تحضر مناسبات الأفراح للعوائل الملتزمة التي كانت تدعوها للحضور، لتحيي فيها الأجواء الروحية الإيمانية ..
بل كانت "بنت الهدى" تحرص على الحضور في المجالس الحسينية النسوية الخالية مِن الوعظ، وحين تُسأل عن سبب حضورها تجيب بما مفاده أنّ هذه مجالس سعى لإقامتها الأئمة الأطهار عليهم السلام، وإنّ خلو المجلس الحسيني من الهدف الذي من أجله أُقيم لا يستوجب مقاطعته، و عدم التشجيع على الحضور فيه لأنّ ذلك من شأنه أن يحجّم المجلس الحسيني، ومع الوقت تختفي مثل هذه المجالس، و نفقد ظاهرة بالإمكان الاستفادة منها بتحويلها إلى مجالس مفيدة، ولو بعد حين.. وذلك بالتقرب من مقيمي هذه المجالس و توجيههن لإحياء المجلس بالوعظ والإرشاد ..
و لو انقطعت هذه المجالس ليس بإمكاننا تجميع هذا العدد الضخم من المؤمنات للاستماع لمحاضرة وعظ ديني، لأجل هذا كان لزامًا الحضور فيها وتشجيعها..
سيدةً وحصورةً من الصالحات..
لم تنقطع العلوية يومًا عن خدمة الإسلام، تنوّع في أنشطتها و أساليب طرح أفكارها حتى تتمكن من تكسير حواجز سعى أعداء الإسلام لإقامتها بين الدين والمرأة،..ولهذا الهدف كرّست حياتها رافضةً الزواج، لإيمانها أنّ هذا الرباط المقدَّس سيتطلب منها تفرغًا لا تتمكن معه أن تُمارس دورها الرسالي بالزخم الذي كانت تعطيه، فهي آمنت بضرورة أن تكون زينب في زمن كان على أخيها أن يكون الحسين..
الرباط المقدس ..
"الزوجية في الإسلام هي رباط مقدّس يقوم على أساس الوفاء و الحب و الإخلاص،..للزوجة فيها ماللزوج و عليها ما عليه .."
"فالمرأة، و نظرًا لطبيعتها التي خُلقت لها تكون أضعف من الرجل و أرق. و هي تتعرض في أدوار معينة من حياتها إلى أعراض طبيعية لها التأثير البالغ على قواها الجسمانية و الفكرية خلافًا للرجل الذي هو في منأى عن أمثال هذه الأعراض و آثارها.."
"و لذلك فهي تحتاج دائمًا وأبدًا إلى من يشدها في جميع الأحوال، وإلى من يسندها في كلّ وقت... ولو لم يكن للرجل على المرأة درجة لأصبح الرجل بالنسبة للمرأة كواحدة غيرها من النساء، وعند ذلك تفقد هذا الشعور الذي تحتاجه كل أنثى، وهو شعورها بأنّها في حمىً مكين.."
إرثٌ من الأدب..
تركت العلوية آمنة الصدر "بنت الهدى" إرثًا أدبيًّا و فكريًا جميلًا..، منه القصص الهادفة التي كانت تؤكد أنها كتبتها بشكل قصة فقط وفقط لتقرب المفاهيم وتحببها للقارئ، بحيث يخرج عن السرد الممل للأفكار، فكانت تصبّ كل المفاهيم التي تريد أن توصلها لقرّائها في قالب القصة ..
وكان ممّا كتبت..
- كتاب "كلمة و دعوة"، صدر في بداية الستينيات الميلادية و كان أول كتاب لها.
- "الفضيلة تنتصر"، و هي رواية تمثل انتصار الفضيلة والعفة في مقابل الرذيلة و التحلل..
- "المرأة مع النبي صلى الله عليه و آله"، صدر ضمن سلسلة "من هدي الإسلام"
- "صراع من واقع الحياة"، مجموعة قصصية
- "الباحثة عن الحقيقة"، رواية..
- "ذكريات على تلال مكة"، كتبتها عند عودتها من الحج في العام ١٩٧٣م..
- "الخالة الضائعة"، مجموعة قصصية..
- "لقاء في المستشفى"، رواية... وهي آخر كتاب صدر لها..
العلوية تُلهب الشارع النجفي..
موج من المشاعر اجتاح قلب العلوية في إحدى الليالي القمرية من شهر رجب، فلم تستطع أن تهدأ..لقد أخذ جلاوزة النظام البعثي أخاها السيد محمد باقر الصدر،.. لم تستطع اللحاق به.. لم تكن تجزع من شيء سوى أن تُحرم مشاركة أخيها في كل شيء حتى الشهادة..، فوقفت تكبر بشموخ زينبي..الله أكبر..الله أكبر ..الله أكبر..
لجأت آمنة إلى حيث مرقد جدها أمير المؤمنين عليه السلام، و وقفت تنادي، و تستحث الضمائر الحية لنصرة مرجعهم المعتقل..
"الله أكبر..الله أكبر الظليمة الظليمة!! أيها الناس هذا مرجعكم قد اعتقل"..
"يا جداه ..يا أبا الحسن إليك نشكو مصابنا من هؤلاء الكفرة الذين هتكوا الحرمات، وهاهم قد اعتدوا على إمام الأمة"..
بهذا حركت "بنت الهدى" جماهير النجف الغاضبة لنصرة السيد محمد باقر الصدر، ..و لم يطل الأمر كثيرًا حتى اضطُرّ النظام إلى الإفراج عنه دون أن يحصل منه على أي تنازل..
وهذا ما حرّض صدام على اعتقالها مع أخيها بعد عشرة أشهر من الإقامة الجبرية التي فرضها على السيد محمد باقر الصدر و عائلته ..
قلبها يعانق هموم الناس..
و في تلك الفترة التي اضطرت فيها إلى الانعزال عن أغلب أنشطتها شعرت العلوية أنها تود لو تطير إلى بيوت الشهداء لتواسي زوجاتهم، وأمهاتهم.. ولآخر نفس من أنفاسها الطاهرة كانت تحمل همّ خدمة الناس، ومشاركة همومهم..
لأجل هذا قُتلت زينب..
جاء جلاوزة النظام صباح العشرين من جمادى الأولى الخامس من أبريل ١٩٨٠م لاعتقال السيد محمد باقر الصدر ..فأخذوه، و كان يعلم.. وهي تعلم أنها المرة الأخيرة! ...لكنها كانت هادئة مطمئنّة.. قلبها لم ينتفض هذه المرة ...وسكينةٌ تعلوها..
ذهب السيد وعاد أحد الجلاوزة يقول :" إن السيد أبا جعفر يود أن يراك"..ردّت بثبات ..إذا كان السيد يطلبني فسمعًا و طاعة.. دخلت إلى داخل البيت وأحكمت حجابها ثم خرجت ..وما عادت .. ولَم يُعرف لها قبرُ!
يُروى أنّ صدام سئل عن سبب قتله لـ"بنت الهدى" فأجاب أنه لم يرد أن يرتكب الخطأ ذاته الذي ارتكبه يزيد بإبقائه على حياة زينب..!
المصادر
- "الشهيدة بنت الهدى..السيرة و المسيرة"، عارف كاظم محمد، دار المرتضى، لبنان-بيروت
- "المرأة مع النبي صلى الله عليه و آله"، الشهيدة بنت الهدى، دار الكتاب الإسلامي.
أضيف بتاريخ :2017/03/09