أوروبا بعد (الطلاق) البريطاني!
علي ناجي الرعوي ..
أحدث تصويت أكثر من 17 مليون بريطاني لصالح انسحاب بلادهم من الاتحاد الأوروبي زلزالاً في القارة العجوز والعديد من دول العالم التي فوجئت بنتائج ذلك التصويت وما أحدثه من صخب وقلق وانكسارات اقتصادية وسياسية داخل القارة وخارجها ليصبح هذا الحدث بالنسبة للعديد من المراقبين شبيهاً بما جرى قبل ربع قرن وتحديدا عام 1989م الذي شهد بشكل دراماتيكي سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار سور برلين واشتعال الثورة القرنفلية وسط وشرق أوروبا ووجه الشبه هنا يتجلى شاخصاً بما حملته بعض التحليلات التي تجزم بأن الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي هو بمثابة إعلان غير رسمي عن انهيار مشروع أوروبا الموحدة كمشروع سياسي واقتصادي استراتيجي.
حين سقط الاتحاد السوفيتي كتب جان دانييل في (النوفيل اوبسرفاتور): من الصعب على كتاب الميديا في العالم اليوم إقناع الناس الذين استيقظوا على عالم جديد غير العالم الذي عرفوه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بأن خروج الاتحاد السوفيتي من مسرح التاريخ ناتج عن أخطاء في السياسات أو أخطاء في النظريات أو أن ماحدث قد حدث بعيدا عن مطالب الناس الذين يشعرون بالعزلة وأصابهم الضجر وهم يجدون أنفسهم في حالة افتراق عن بقية العالم قبل أن يتدخل ميخائيل جورباتشوف ويرفع شعار التغيير أو سياسة الإصلاح (البيروسترويكا) .. وقد يكون من المصادفة أن ما قاله جان دانييل عن سقوط الاتحاد السوفيتي لا يختلف كثيرا عن ما قاله الرئيس الأميركي باراك أوباما في تعليقه على حالة التدافع الحاد والعميق الذي ساد أوروبا عقب الإعلان عن الاستفتاء البريطاني بالخروج من الاتحاد الأوروبي إذ قال في ذلك التعليق: لقد شعرت وكأن حلف الناتو قد زال من الوجود وأن على المجموعة الدولية البحث عن العالم القادم.
ردود الفعل الأوروبية المتشنجة على القرار البريطاني لم تتجاوز فقط لغة الدبلوماسية الهادئة بل أنها من قفزت على ذلك إلى تشبيه رئيس الوزراء البريطاني المحافظ ديفيد كاميرون بميخائيل جورباتشوف الذي يتهم بأنه من تسبب في تفكيك الاتحاد السوفيتي مع الفارق هنا أن كاميرون كان من أشد المؤيدين لبقاء بلاده ضمن الاتحاد الأوروبي وأن الديمقراطية التي راهن عليها لإلحاق الهزيمة بخصومه في الجناح اليميني المؤيد للخروج من ذلك الاتحاد لم تكن ربما هي نفسها الديمقراطية التي انتصر بها على دعاة الانفصال في اسكتلندا فقد خذلته هذه المرة الديمقراطية التي أراد من خلالها أن يثبت لبلاده ولأوروبا بكل مجتمعاتها انه صمام أمان إلا انه من خانته قراءته المبتسرة للمزاج البريطاني حيال ما يتصل بالعلاقة مع الآخر الأوروبي ليخسر على اثر ذلك منصبه ومكانته السياسية مما دفع بكاتب بريطاني ليسأل : من الذي يقف الآن إلى جانب كاميرون؟ وهناك في لندن من يصفه بالسياسي المترنح وفي اسكتلندا من يعتبره الثعلب الذي فقد قدميه الأماميتين.
لم تسر التطورات بعد إعلان بريطانيا (الطلاق) مع أوروبا مثلما كان يتمنى المؤيدون لهذا الطلاق ففي لندن نفسها شعر الكثير من سكانها أن الأمور ليست جميعها مثالية وأن الأحداث للأسف اتخذت مسارا مختلفا وأن الذين يأملون بناء جدار بين بريطانيا وأوروبا قد أساءوا إلى بلادهم وإلى أوروبا فقد برهنت كل المؤشرات على أن بريطانيا لا يمكن لها أن تصبح لاعبا عالميا قويا بمعزل عن شقيقاتها في البيت الأوروبي وبالتالي فان من تسرعوا إلى التصويت على خروج بريطانيا من ذلك البيت المشترك حتى وأن كانوا الأغلبية هم ولا شك لم يستوعبوا الآثار المترتبة على تلك الخطوة التي تضعف بريطانيا وتكرس لانفراط عقد الأوروبيين الذين كان ينظر إلى وحدتهم كنموذج ناجح بسبب نضوج تلك الوحدة والفرص التي أتاحتها لإنجاز أهداف التطور التاريخي للقارة الأوروبية.
قد يكون علينا ونحن نقرأ الرفض البريطاني للاستمرار في الاتحاد الأوروبي أن نصدق من أن ديفيد كاميرون لم يتوقع على الإطلاق أن بلاده التي انضمت رسميا للاتحاد الأوروبي عام 1975م على إثر استفتاء دعا إليه رئيس وزرائها آنذاك ويلسون هي من ستصوت على الخروج من ذلك الاتحاد وبالذات وان الكثير من أبنائها لا يجهلون الأبعاد الخطيرة التي ستنجم عن ذلك الخيار الأليم والذي أظهر بالفعل أن هناك من لا يزال يحن لعصر الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وبالتالي فهو من يرى أن بريطانيا (الأوروبية) هي من ستبدو أقل فاعلية وأقل وهجاً وبريقاً في ظل الهيمنة الألمانية والفرنسية على البيت الأوروبي .. وذلك هو مجرد وهم تدفع ثمنه اليوم بريطانيا وأوروبا كلها.
جريدة الرياض
أضيف بتاريخ :2016/07/08