تركيا.. انقلاب عسكري أم سياسي
سعود البلوي ..
أردوغان وصف الجيش التركي بأنه جيش محمد، ولا يُعرف أكان يقصد النبي محمد عليه الصلاة والسلام أم كان يقصد السلطان التركي محمد الفاتح بهذا الوصف، لكن كلا الوصفين مخيفان للغرب بطبيعة الحال
موضوع الانقلاب العسكري الذي قام به -بحسب الرواية الحكومية- فصيل من ضباط الجيش التركي الأسبوع الماضي، هو حديث الساعة والموضوع الحيوي، ليس على المستوى التركي ولا العربي والإسلامي، وإنما على المستوى العالمي أيضا؛ والسبب في ذلك هو أن تركيا دولة كبيرة جداً في محيطها الجغرافي والسكاني، وبالتالي فإن تأثيرها يمتد إلى منطقة الشرق الأوسط وأوروبا.
وبصرف النظر عن التحليلات والروايات التي تحمِّل الجيش التركي كليا أو جزئيا -بعناصره المتقاعدين أو الذين على رأس العمل- تدبير هذا الانقلاب، وبصرف النظر عن التحليلات والروايات التي تحمِّل الحكومة (العدالة والتنمية) تدبير هذا الانقلاب، وبصرف النظر أيضا عن التحليلات والروايات التي تحمِّل المعارضة المتمثلة بجماعة الداعية محمد فتح الله كولن تدبير هذا الانقلاب، فإن السؤال الجوهري هو: ما الذي ستؤول إليه الأمور في تركيا؟
وللوقوف على الرؤية حيال هذا الموضوع لا بد بدايةً من القول إن الانقلاب العسكري في 2016 بتركيا يختلف كلياً عن الانقلابات السابقة من ناحية السيناريو، ومن ناحية النتيجة، وأيضا من ناحية الإفرازات والتبعات؛ ولذلك ربما أن تركيا قبل هذا الانقلاب ليست هي ذاتها بعده.
هنالك تبعات مباشرة لهذا الانقلاب على المستوى القصير بمدى قد يصل إلى خمس سنوات، وهناك تبعات على المستوى المتوسط بمدى قد يصل إلى عشر سنوات، وهنالك أيضا تبعات عميقة على المستوى البعيد بمدى قد يصل إلى عشرين عاماً.
والتبعات المباشرة رأيناها منذ لحظة إعلان الانقلاب، وتمثلت أولا وقبل كل شيء بخروج آلاف الأتراك إلى الشوارع معلنين رفضهم للانقلاب وتضامنهم مع الحكومة المدنية المنتخبة، فحتى الأحزاب السياسية المعارضة أعلنت موقفها التضامني مع ديموقراطية بلادها ووقوفها إلى جانب الحكومة المنتخبة ديمقراطيا، على اعتبار أن الخبرة السابقة للمجتمع التركي في الانقلابات العسكرية الأربعة (1960، 1971، 1980، 1997) التي أعقبت تأسيس الجمهورية التركية، أدت إلى سيطرة الجيش على كل مؤسسات الدولة، وبالتالي التضييق على الحريات العامة وحرية التعبير في وسائل الإعلام، وإلغاء العملية الديمقراطية بتجميد تداول السلطة المدنية.
ولهذا فإن المؤشرات الإيجابية لفشل الانقلاب تتمثل في تماسك الجبهة الداخلية التركية، والتقارب السياسي بين الأحزاب وتداول السلطة سلميا، وإجراء تغييرات في الجيش التركي تضمن تحييده تماما عن السياسة وإبقائه قويا لحماية حدود البلاد وحلفائها.
غير أن الانقلاب المعلن الذي لم يتم نجاحه قبل أسبوع قد أعقبته إجراءات يراها البعض مؤشرا سلبيا، وتتمثل بالإجراءات المتبعة لـ"تطهير" المؤسسة العسكرية من الانقلابيين، حيث نالت هذه الحملة التطهيرية المعلنة من قبل الحكومة بعد يومين من آلاف العسكريين، ومئات القضاة، ومرشح أن تنال كل مفاصل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والإعلام والتعليم والجمعيات والمؤسسات الأهلية، وربما تفضي حملة الاعتقالات في أوساط الجيش التركي إلى خلق حالة من الاستياء الكامن، وبالتالي ربما تتوسع دائرة الانقلابات العسكرية مستقبلا، أو إضعاف الجيش وإنهاكه داخليا وخارجيا، تمهيدا لتغيير نظام الحكم من البرلماني إلى الرئاسي، واستمرار التأهب ضد "الإرهاب" الموسوم بجماعة "كولن" الذي قد لا يتوقف عند حد معين بعد إعلان حالة الطوارئ -بمصادقة البرلمان- لمدة ثلاثة أشهر.
أما التبعات المحتملة على المستوى المتوسط، أي خلال السنوات العشر القادمة، فتتمثل بـ"السطوة الحكومية" التي سوف تعيد سياسة الحزب الأوحد المتمثل بحزب العدالة والتنمية وانضواء الأحزاب والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني تحته، وبالتالي تهميش الدستور وتداول السلطة، والافتقار إلى التعددية السياسية وعدم وجود معارضة حقيقية، وهذا ما سوف يؤدي إلى انحياز المجتمع إلى الحلقة الأقوى وهو النظام، في ظل نشوء الخوف والسطوة الأمنية وتقلص الحريات العامة وانعدام الحرية السياسية؛ وعلى هذا الأساس تصبح تركيا نموذجا للدولة الشمولية سواء تلك الدول رأيناها في العالم العربي (ليبيا وتونس ومصر والعراق وسورية واليمن) أو بعض الدول الأخرى مثل روسيا وفنزويلا إبان سلطة رئيسها الراحل هوجو شافيز، وغيرها.
غير أن هنالك احتمالاً في نشوء تغيير راديكالي يتمثل في إعلان تركيا جمهورية "إسلامية" قد تحاول استعادة زعامة العالم الإسلامي وهذا يتطلب من الرئيس رجب طيب أردوغان أن يسير على خطى سلفه الرئيس مصطفى كمال أتاتورك ولكن في الاتجاه الآخر النقيض من العلمانية، الأمر الذي قد يبرر تخلص أوروبا من الالتزام بتركيا كحليف في الناتو، وخاصة أن الرئيس التركي أردوغان قد وصف الجيش التركي بأنه جيش محمد، ولا يُعرف أكان يقصد النبي محمد عليه الصلاة والسلام أم كان يقصد السلطان التركي محمد الفاتح بهذا الوصف، وكلا الوصفين مخيفان للغرب بطبيعة الحال، مما قد يسرّع في التحلل من الالتزام بالحلف التركي.
إذ طالما اعتَبرت أوروبا تركيا عبئا سياسيا وثقافيا وسكانيا عليها، كما لم تعد تركيا تعتبر أوروبا حديقتها الخلفية نتيجة تبدل المصالح، ولهذا اتجهت تركيا إلى الشرق الأوسط، وربما روسيا مستقبلا في مسيرة عكس التاريخ، متخلية تماما عن "الحلم التركي" في الانضمام للاتحاد الأوروبي الذي هو "نادٍ مسيحي"، محاولة استعارة الثوب العثماني و"أمجاده" في الشرق، ولكن هنا سوف تتخلى تركيا تلقائيا عن الدور الذي لعبته طوال 80 عاما كعامل وسيط ونقطة ارتكاز بين الشرق والغرب.
أما بالنسبة للتبعات المحتملة للانقلاب على المستوى البعيد، أي خلال السنوات العشرين أو الخمس عشرة القادمة، فتتمثل في الخطر الذي هدد تركيا -وما زال- وهو النزعة الانفصالية لبعض الأقليات مثل الأكراد والعرب وغيرهم من الأقليات الأخرى؛ وذلك نتيجة عوامل عرقية وثقافية وجغرافية، وهذا ما قد يصنع عصر الدولة التركية الفيدرالية، وربما الدولة الكونفيدرالية، على اعتبار أن المسألة الكردية هي الأبرز.
كل هذه العوامل السابقة ربما تلغي من الذاكرة السياسية أربعة انقلابات قام بها عسكر الجيش التركي، ولكنها قد تبقي في المقابل على انقلاب واحد فاشل كانت تبعاته أطول منها زمنا.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2016/07/23