الطّاقة والسياسة والديمقراطية [1]
عامر محسن ..
«النفط هو رأس المال الذي أورثته للبشرية كائنات حيّة من الماضي»
جان بول سارتر
إذا ما اعتمدنا وجهة النظر التي عرضها تيموثي ميتشل في كتابه «ديمقراطية الكربون» (2011)، والقائلة بأنّ نظام الطّاقة في عصر الحداثة قد حدّد شكل النظام السياسي ونمط العلاقات الدوليّة ونشاط الإستعمار، فإنّ السنوات القادمة (التي ستشهد صعود أشكالٍ جديدةٍ من الطاقة على حساب النفط والوقود الأحفوري) قد تكون فاتحة عهدٍ جديد للعمران البشري.
بالنّسبة إلى ميتشل، فإنّ الفحم والنّفط هما العماد المؤسس لا للرأسمالية الصناعية فحسب، بل للسياسات الجماعية والديمقراطية الغربية والنظام العالمي الذي نعرفه. قبل عهد الوقود الأحفوري، كان العالم يعتمد حصراً على مصادر الطاقة المتجددة، وبشكل أساسيّ طاقة الشمس (التي تتحول إلى نباتات وغابات ومحاصيل ومراعٍ)؛ وكان الاقتصاد البشري يشبه نظاماً يقوم فيه عددٍ هائل من النّاس بالتشارك في جمع هذه الطاقة ونقلها، كمزارعين مثلاً، وكلّ فردٍ هنا ينتج قدراً صغيراً جدّاً من هذه الطاقة الطبيعية.
في ظلّ هذا النّظام، كانت قواعد المعاش والاقتصاد مختلفة؛ لم تكن هناك إمكانية للنموّ المستمرّ بلا توقّف، فكلّ توسّع اقتصادي تحكمه دوراتٌ طبيعية تحدّه ولا يمكن تجاوزها (وتيرة تجدد الغابات والمراعي، مثلاً، ومواسم الزراعة). استغلال الوقود الأحفوري المخزّن في باطن الأرض منذ عصورٍ سحيقة، يقول ميتشل، فتح الباب على استخراج الطاقة بشكلٍ غير محدود، وإمكانية النموّ بلا توقّف. بل أنّ ميتشل يدّعي أنّ مفهوم «الاقتصاد» نفسه، كمجالٍ مخصوصٍ للإنتاج والنموّ، مستقل نسبياً عن سياقه الجغرافي، وله قواعد متشابهة في كلّ العالم، قد ولد مع فتح باطن الأرض للإستعمار البشري بعد أن هيمن الإنسان على سطحها بالكامل.
طاقة الفحم والديمقراطية
الوقود الأحفوري، يقول تيموثي ميتشل، هو بمثابة وفرٍ جمعته لنا الطبيعة منذ عهودٍ سحيقة. كلّ ليترٍ من البنزين يحتاج إلى 25 طناً من الكائنات البحرية، دُفنت في باطن الأرض منذ ملايين السنين، لتتحوّل إلى وقود سائل. النفط الذي يستهلكه العالم في كلّ عام يوازي 400 سنة من نشاط كوكب الأرض وإنتاجه للمواد العضوية (نبات وحيوان)، نستخرجه في عامٍ واحد على شكل مخزونات كربونية. بمعنى آخر، يحاجج ميتشل، فإنّ الوقود الأحفوري، فحماً ونفطاً، هو بمثابة «ضغطٍ» للزمن ولإمكانيات الإنتاج، بحيث يصير التوسّع الاقتصادي حرّاً من حدود الطبيعة.
الفحم أوصلنا إلى الإنتاج المكثّف للفولاذ (قبله، كانت مصاهر الحديد تعتمد على الأخشاب والغابات، وكان إنتاجها محدوداً بحجم هذه الموارد)، والفولاذ مع الفحم أعطيانا المحرّك البخاري، الذي سمح باستغلال مناجم الفحم العميقة ــــ وأوّل المحركات البخارية قد تمّ تصميمها، في أواخر القرن الثامن عشر، تحديداً لأجل هذه المهمة. وحين تمزج المحرّك والفحم والفولاذ تحصل على القطار والسكة الحديد، اللذين بنيا أصلاً لنقل الفحم؛ وهذه أعمدة العصر الصناعي. حُفرت شبكة هائلة من القنوات المائية في بريطانيا بين مراكز إنتاج الفحم ومواقع استهلاكه لتخفيض كلفة النقل، ومع بدايات القرن التاسع عشر، كانت أوروبا الغربية قد دخلت بقوّة في عهد الوقود الأحفوري، حيث يزداد استخدام الطاقة والمحرّكات أضعافاً كلّ عشرة أعوام (وفي أواخر القرن، بدأ إنتاج الكهرباء، بحيث أصبح عددٌ قليلٌ جداً من الناس، بالمئات مثلاً، ينتجون كمّاً هائلاً من الطاقة يكفي مدناً وبلداناً).
تتجاور مكامن الفحم والحديد مع تجمّعات السكّان في ثلاثة أقاليم في الغرب: بريطانيا، وحزامٌ يمتدّ من شمال فرنسا إلى بلجيكا وألمانيا، وجبال آبالاتشيا على الساحل الشرقي لأميركا؛ وفي هذه المناطق قامت الحداثة الصناعية. مجتمع الفحم يعني أنّه صار بالإمكان جمع أعدادٍ هائلة من الناس ــــ بالملايين وعشرات الملايين ــــ في تجمعات صناعية ومدينية، وإمدادهم بقدرٍ غير محدود من الطاقة للعمل والإنتاج. ومن هذه التجمعات، يحاجج ميتشل، خرجت الديمقراطية والمطالب العمالية: اقتصاد الفحم، بما هو «شبكة» تحتوي على مفاصل وعقد (المناجم، مرافىء التحميل، سكك الحديد)، أعطى العمّال في هذه النقاط الحساسة إمكانية للضغط والمطالبة والتكتّل لم يعرفها العالم من قبل (أو بعد انتهاء عصر الفحم، وصولاً إلى يومنا هذا): يكفي أن يتوقّف مئاتٌ عن العمل حتى يختنق الاقتصاد. إصلاحات القيصر الألماني لقانون العمل، في أواخر القرن التاسع عشر، كانت استجابةً لإضرابات عمال المناجم، والحال مشابه في فرنسا وتحديد ساعات الدوام والضمانات الصحية. وثورة 1905 في روسيا انطلقت من حقول باكو ومشاغل السكك الحديدية فيها (حتّى في بلادنا، كان أوّل إضراب عمالي «حديث» في مصر هو لجارفي الفحم في محطة تزويد السفن في بور سعيد، أكبر محطات العالم يومها، في القرن التاسع عشر، والسعودية والخليج عرفت إضرابها الأول مع عاملي «أرامكو» وناصر السعيد).
من جهةٍ أخرى، فإنّ نشوء «ديمقراطية الكربون» في أوروبا الغربية استلزم نشاطاً غير ديمقراطيٍ بالمرّة في باقي أقاليم العالم. حتّى تزوّد هذه المراكز الصناعية في المركز الغربي بالغذاء والمواد الأوّلية، فأنت تحتاج إلى استغلال قارات كاملة «بالطريقة التقليدية»، عبر استخدام طاقة الشمس، لإنتاج محاصيل من القطن والسكر والقمح تكفي المركز المتروبولي. ومن هنا بدأ «تخصيص» مناطق واسعة لمحاصيل محددة، عالية المحتوى الطاقوي: السكر في الكاريبي، القهوة في البرازيل، القطن في الهند، الخ. ولأن هذه الأقاليم كانت في غالبها زراعية وتعتمد الاكتفاء الذاتي، احتاج الأوروبيون إلى إنشاء بنى استعمارية حاكمة تفرض المحاصيل على المزارعين (سواء عبر بناء مجتمع من العمال\العبيد، أو عبر الاحتلال المباشر والإدارة الاستعمارية كما في الهند) وتضمن قيام هذه «التجارة» التكاملية بين المركز والأطراف.
طاقة الشمس اليوم
علي أن أوضح بأني لم أكن يوماً من المتحمّسين المبكرين لمفهوم «الطاقة المتجددة» وأنا، أصلاً، اقرأ الكثير من الأدبيات البيئية المعاصرة بتشكيك وحذر. وقد نصحت العديد من الأصدقاء في السنوات الماضية، حين أرادوا الإندفاع خلف مشاريع طاقة شمس ورياح في بلادنا، بأنّ هذه التقنيات ليست اقتصادية بعد، وأنت لا تراها في أوروبا إلّا لأنّ الحكومات تدفع دعماً هائلاً لتجعلها منطقية بالنسبة إلى المستهلك. إلّا أنّه، في السنوات القليلة الماضية، حصل تغييرٌ جذري.
للتبسيط والاختصار: بين عامي 2009 و2014، هبطت كلفة تركيب كيلوواطٍ واحد من ألواح الطاقة الشمسية من ما يقارب 8 دولارات عالمياً إلى دولارين (والكلفة اليوم أقلّ بكثير). هبوطٌ في السّعر بهذا المستوى يغيّر كلّ المعادلة الاقتصادية وحدود ما هو ممكنٌ وما هو مربح. في تشيلي، أصبحت الطاقة الشمسية وفيرة ورخيصة إلى درجة أن هناك أزمة لتصريف الطاقة الشمسية الفائضة، التي انهارت أسعارها. في بلدٍ مستوردٍ للوقود كالأردن، أصبح من الأوفر إقامة معملٍ على الطّاقة الشمسيّة المتجدّدة مقارنة بإنتاج الكهرباء عبر الغاز أو الوقود. وفي بلدٍ كلبنان، حيث الطاقة نادرة ومستوردة وعالية الثمن، أصبحت الطاقة الشمسيّة، قطعاً، أكثر وفراً من البدائل، حتى على مستوى المؤسسات الصغيرة (وقد تطوّرت، بالتوازي مع صناعة الألواح الشمسية، تكنولوجيا بطاريات التخزين، التي ينخفض ثمنها بسرعةٍ أيضاً، وهي تسمح بتحقيق الاكتفاء عن الشبكة الكهربائية لو لزم الأمر).
هذا الإنحدار في السعر لم ينتج عن التطوّر «الطبيعي» لتكنولوجيا ألواح السيليكون، وتراكم الاستثمار الغربي فيها على مدى عقود، بل قاده قرارٌ ــــ سياسيّ في العمق ــــ اتّخذته القيادة الصينية منذ عشر سنوات، أدّى إلى زيادةٍ مهولة في إنتاج الألواح الشمسية الصينية، حتّى هيمنت على السوق العالمي وكسرت الأسعار. في تحقيقٍ لمجلّة «ساينتيفيك أميريكان»، تصف الدوريّة كيف أنّ أميركا، التي خلقت تكنولوجيا الألواح الشمسية وظلّت على رأسها منذ السبعينيات، لم تعد قادرةً على التنافس مع الصينيين فيما العالم يدخل عصر الطاقة الشمسية الرخيصة. الصناعة الأميركية اليوم، تقول المجلّة، تكفي بالكاد لسدّ ثلث الطلب الداخلي، ولا تنافس تقريباً حول العالم. وكالة «بلومبرغ»، أيضاً، نشرت هذا الأسبوع تقريراً عن تفكّك صناعة الألواح الشمسية في أميركا، مقابل الهيمنة الصينية، وتقول إنّ الإنتاج الصيني أوصل السعر العالمي إلى حدٍّ هو أدنى من تكلفة الإنتاج بالنسبة إلى المصانع الغربية.
لم تنبت هذه الصناعة في الصين بشكلٍ عضويّ، تقول «ساينتيفيك أميريكان»، فمصانع الألواح الشمسية هي بشكلٍ عام ضخمة وعالية المكننة؛ أي أنها تحتاج إلى استثمارٍ رأسمالي كبيرٍ ولا يمكن زيادة الإنتاج بالتدريج، بل عبر «قفزات» كميّة. بعد أن كانت الصين لا تملك، تقريباً، أي خبرة في إنتاج الطاقة الشمسية (الصناعات الصغيرة الموجودة في البلد كانت موجّهة لاحتياجات ريفية ثانوية)، استثمرت الدولة الصينية أكثر من خمسين مليار دولار خلال فترةٍ قصيرة لتحفيز هذا القطاع؛ ثمّ أقرّت قوانين خلقت طلباً داخلياً هائلاً على ألواح السيليكون، فانفجر الإنتاج والاستهلاك معاً. على الهامش: هذه القصّة توضح لنا ما يقصده كتّابٌ كسمير أمين أو علي القادري حين يحاججون بأنّ الحلف الغربي الذي يحكم العالم لا يعادي الدّول خارجه على أساس الإيديولوجيا أو تعارض المصالح بالضرورة، بل هو يعادي أي «دولة» حقيقية، مستقلّة، تنبت خارجه، وينظر إليها كتهديدٍ محتمل وكهدفٍ دائم ــــ ولو لم تناصب الهيمنة العداء. لا يهمّ هنا إن كانت قومية أو إسلامية أو شيوعية، الصين أو روسيا أو إيران، فأيّ نموّ مستقلٍّ في الجّنوب يعني ــــ مباشرةً ــــ خسارة الغرب لقطاعاتٍ واحتكارات وهوامش أرباحٍ؛ وهذا لا يمكن تلافيه إلا عبر «استيعاب» هذه الدول وتحديد مكانها ودورها في النظام العالمي ــــ حتى لا تفعل ما فعلته الصين في مجال الطاقة الشمسية أو الهواتف الذكية، وحتى تكون مثل الإمارات وليس مثل إيران. الغرب قرّر مصير عصر الكربون منذ بداياته إلى اليوم، وقد كان تاريخ الشرق الأوسط المعاصر في جانبٍ كبيرٍ منه (كما سنرى في المقال اللاحق) نتيجة لبناء هذا النظام. ولكنّ هذه الحسابات ستختلف مع عصرٍ جديدٍ للطاقة، قد يكون العالم قد دخله بالفعل. (يتبع)
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/01/04