انخفاض أسعار البترول لم يكن طبيعيا
عثمان الخويطر ..
حديثنا في هذا المقال لن يتطرق إلى التذبذب الحالي اليومي في أسعار البترول، وهي ظاهرة تكاد تنفرد بها هذه السلعة الإستراتيجية الثمينة. فأي تصريح من مسؤول في شؤون البترول أو حركة نزول أو صعود أسبوعية في مستوى المخزون الأمريكي بالذات، يرتفع أو ينخفض سعر برميل البترول تبعا لذلك دون أي مبرر منطقي أو وِجهة نظر مقبولة. فموضوعنا الرئيس اليوم عن الانخفاض الكبير الذي طرأ على أسعار البترول في أواخر عام 2014، ولا يزال عند مستواه المتدني منذ ذلك الوقت بسبب وجود فائض قليل طارئ في الإنتاج العالمي. وما كان للسعر أن ينحدر قبل عامين إلى ما دون 30 دولارا للبرميل لولا أن هناك عوامل ضغط تريد له النزول. وبصرف النظر عن تحقيق الأهداف المرجوة من عدمها، فقد اتفق معظم المنتجين قبل نهاية عام 2016 على تخفيض اختياري مشترَك في محاولة لإنعاش الأسعار ولو بنسبة متواضعة. وقد اتفقت تلك الدول على أن يبدأ التنفيذ في أوائل يناير 2017، وهو ما حدث فعلا، على الرغم من أن عددا قليلا من الدول المعنية لم تف بعد بوعودها. وظل سعر البرميل يحوم حول 55 دولارا، ينخفض حينا ويرتفع حينا آخر. وفي حقيقة الأمر، لا نعلم إن كان هذا المستوى هو المقصود من الاتفاق الهش، أم أن طموحهم كان إلى أبعد من ذلك. ولكن من الواضح أنك لا تلمح على محياهم الحماس المطلوب، وكأن أمر السعر الحالي محسوم سلفا. وهناك من يعتقدون بأن التخفيض كان أصلا لضمان عدم عودة السعر إلى مستوى العشرينيات الذي كان قد بلغه لفترة وجيزة أثناء هبوطه الكبير قبل عام ونصف، وهذا غير دقيق.
ونعود إلى مبدأ تخفيض الإنتاج بالنسبة للأطراف المختلفة من المنتجين، داخل "أوبك" وخارجها، وعلى وجه الخصوص الذين يعتمدون في معيشتهم كليّا على دخل البترول، وكذلك من لا يشكل الدخل إلا جزءا يسيرا من متطلبات حياتهم. فمن المفترض، ومن الطبيعي أيضا، أن جميع مصدري البترول يهمهم عودة السعر إلى مستويات ما قبل منتصف عام 2014 التي كانت فوق 100 دولار. ولكننا نلحظ دائما تلكؤا عجيبا من كثير من دول البترول في تخفيض الإنتاج، مقابل ارتفاع السعر، وغالبا ما ينعتون التخفيض بأنه خسارة إنتاج. وهو فعلا "لغويا" نقص في الإنتاج، ولكن الاحتفاظ بالكميات المقتطعة في مكامنها تحت الأرض يعد مكسبا مهما لشعوب المستقبل، على أساس أن البترول مصدر ناضب.
وعلى الرغم من وجود كثير من المصالح المشتركة بين المنتجين، إلا أن التعاون الإيجابي بينهم يكاد يكون معدوما تماما، دون وضوح السبب. الآن البترول يستنزف بأعلى قدر ممكن ويباع بأدنى سعر والمستفيد الأول الدول الصناعية الكبرى. وهذه ثروة ناضبة، غدا تنتهي، أو على الأصح، ينتهي الرخيص منها. والمتضرر الأكبر الدول التي يعتمد اقتصادها إلى حد كبير على البترول، وتعاني اليوم عجزا كبيرا في ميزانياتها. فما بالك بعد فترة قد لا تكون طويلة عندما ينخفض الدخل قسريا إلى مستويات متدنية نتيجة للنضوب الطبيعي لحقول البترول الهرمة؟ في ذاك الزمن المقبل سوف ترتفع الأسعار، ربما إلى مستويات قياسية، ولكن بعد أن يكون الإنتاج قد قطع شوطا كبيرا في النزول وارتفعت تكلفته. فمن سنلوم؟ غير أنفسنا نحن المنتجين وعدم مراعاتنا جميعا لأحوال السوق البترولية عندما كانت متخمة. فقد كان في وسعنا التكاتف والتعاضد وتحمل مسؤولية اقتسام تخفيض الإنتاج من أجل المصلحة العامة. ولكن ذلك أصبح من التاريخ. نحن في الوقت الحاضر تحت رحمة ما يخبئه لنا المستقبل من مفاجآت، لعل أبهجها، إن حدث، قفزة في سعر البرميل إلى مستوى مقبول. الدنيا مصالح، ونحن مصلحتنا تستدعي في يومنا هذا أن يكون سعر برميل البترول أعلى من 100 دولار، وهذا يتطلب اتفاقا جديدا بين المنتجين الرئيسين لتنفيذ مزيد من التخفيض يكفي لدعم الأسعار خلال الأشهر المقبلة. نقول هذا الكلام في الوقت الذي نسمع فيه همسا يدور حول فكرة احتمال عدم تمديد التخفيض الدولي الحالي، وهذا إن حدث، فسوف يكون دون شك نكسة أخرى قد يصعب أن نفيق بعدها.
البترول مادة ناضبة، وقد استنفد العالم حتى زمننا الحاضر ما يزيد على نصف المخزون القابل للإنتاج من النوع التقليدي، الذي ينعتونه أحيانا بالرخيص. ونحن الآن في طور استخراج النصف الأخير، ذي التكلفة المرتفعة. والطلب عليه لا يزال في قمته، وسيظل على هذه الحال لسنوات مقبلة. فلماذا لا ننتهز هذه الفرص المتاحة لنا حاليّا ونحاول الحصول على سعر معتدل ومقبول، في حدود 100 دولار للبرميل؟ وهو ما يستدعي، بطبيعة الحال، الاستمرار في التخفيض الحالي ودعمه بتخفيض مماثل. ولكن ذلك يتطلب أيضا، كما أسلفنا، تغييرا في فلسفة الإنتاج.
جريدة الاقتصادية
أضيف بتاريخ :2017/02/26