البحوث العلمية كاستطلاعات رأي
عبدالله المطيري
الدراسات الإحصائية تعطي انطباعا شكليا بالدقة العلمية خلال تقديم أرقام ونسب وإحصاءات. أتفَهّم أن يشكل هذا النمط من البحث جزءا من البيئة العلمية، ولكن حين يهيمن، فنحن أمام فقر معرفي مدقع.
تنتشر في الأقسام العلمية الجامعية الدراساتُ العلمية التي لا تتجاوز كثيرا طبيعة استطلاعات الرأي. على سبيل المثال، تجد دراسات بعناوين من نوع: الثقافة الصحية لدى الطلاب من وجهة نظر المعلمين. في أحسن الأحوال، كل ما سنصل إليه من هذه الدراسة هو استطلاع رأي للمعلمين في الثقافة الصحية لدى الطلاب، وبعض التوصيات المترتبة على ذلك الاستطلاع.
هذا النوع من الأبحاث مفيد، باعتباره يجيب عن أسئلة محدودة جدا، ولكنه يصبح تسطيحا للبحث العملي، إذا أصبح هو السمة السائدة والنمط المنتشر.
سأحاول في هذا المقال إعطاء صورة أوضح لهذا النمط من البحوث، والمشكلات العلمية التي تنتج عن انتشاره في المؤسسات الأكاديمية.
هذا النوع من الدراسات يسمى «الدراسات الوصفية المسحية»، وهو فرع من الدراسات الكمية. تعتمد هذه الدراسات كثيرا على توزيع استبانة تستطلع آراء عينة الدراسة، ثم تستنتج منها توصيات. الجانب النظري الذي غالبا ما يتصدر البحث، يتحول في هذه الدراسات إلى النمط السردي بدلا من النمط الحجاجي. هذا يعني مثلا أنه في الدراسة التي استعرضتُ عنوانها أعلاه، سيكون الإطار النظري ليس إلا سردا لمعنى الثقافة الصحية وتفاصيلها وأهميتها...الخ. الباحث هنا، سيقوم بالاقتباس الهائل من المراجع السابقة، ويصفّ الفقرات فوق بعضها لتشكل الإطار النظري. في هذه الحالة فإن هذه الدراسات لا تدفع بالسياق النظري إلى الأمام باعتبارها تسعى فقط إلى تقديم معلومات عن موضوع الدراسة.
لاحظ مثلا، لو كان الإطار النظري حجاجيا، كأن يعرض الجدل النظري حول مشكلة الدراسة، والمدارس والتيارات النظرية خلف ذلك الجدل، ثم بعد ذلك يقدم الباحث والباحثة موقفا محددا من ذلك الجدل، بترجيح نظرية على أخرى، أو الظهور بتصورات جديدة في القضية.
الموجود حاليا، أن الدراسات الوصفية المسحية يمكن وصفها بأنها «خالية من النظرية – Theory free«، وهذا ما يجعلها تحد من الأفق النظري للسياق الأكاديمي الذي تنتشر فيه.
المشكلة تستمر في منهجية الدراسة وفي أداتها. المنهج الوصفي المسحي يسعى إلى استطلاع رأي عينة الدراسة في موضوع الدراسة.
لاحظ هنا، أننا بهذا نبتعد عن دراسة الظاهرة مباشرة»الثقافة الصحية لدى الطلاب«، ونتجه إلى دراسة»وجهة نظر المعلمين في ظاهرة الدراسة«. هنا، البحث لا يأخذ الطريق المباشرة لدراسة المشكلة، ويستعيض عن ذلك برصد آراء عينة الدراسة. تزداد المشكلة وضوحا، إذا تذكرنا أن عينة الدراسة نفسها ربما لا تكون على دراية وخبرة واختصاص بموضوع الدراسة. مثلا، هناك احتمال كبير ألا يكون لدى المعلمين أو جزء منهم وعي أو معرفة علمية دقيقة بقضايا الثقافة الصحية، وبالتالي تصبح آراؤهم في الموضوع قليلة الفائدة للباحث والقارئ.
الإشكال يتضح أكثر، إذا تذكرنا مشكلات تصميم الاستبانات التي توزع على عينة الدراسة.
بعض الدراسات تعتمد على استبانات أو مقاييس أنتجها خبراء، ولكن البعض الآخر يعتمد فقط على الدراسات السابقة أو البحث الخاص بالباحث. هنا، نجد رابطا آخر بين ضعف الإطار النظري وضعف استبانة البحث، باعتبار أن الخلفية المعرفية للباحث محدودة، وبالتالي تنتج لنا استبانات غير مصممة بشكل قادر فعلا على القياس. انحيازات الباحث ربما تأخذ طريقها إلى الاستبانة خلال توجيه الأسئلة تجاه مناطق معينة دون الأخرى. المشكلة المنهجية تتضاعف إذا تذكرنا المشكلات المتعلقة بضعف الاستجابة للاستبانة، والظروف التي تحيط بالمستجيبين مثل: تبني المواقف المثالية في الإجابات»أذكر في هذا الصدد معلما ملأ الاستبانة بكل الإجابات المثالية عن ضرورة الحوار والعصا في يده«، عدم شعور أفراد العينة بأهمية البحث، وبالتالي تقديم إجابات غير دقيقة وغير مسؤولة..الخ.
بالتأكيد، هناك إجراءات حسابية للتخفيف من كل هذه الآثار، لكنها لن تخفي الحقيقة الكبيرة، وهي أن هناك احتمالا كبيرا أن الدراسة تحلل معلومات غير صحيحة أو غير مهمة.
بعد تلك المشكلات في المقدمة النظرية والمنهجية العلمية، نواجه المشكلات المتعلقة بالتحليل والتوصيات. التحليل غالبا ما يعتمد على الأرقام الإحصائية التي تقدمها برامج الإحصاء، مثل SPSS. هذه النتائج تأخذ عبارات شبيهة بالتالية: يرى 51% من عينة الدراسة أن الأسرة لا تساعد في تنمية الثقافة الغذائية للطلاب. كل ما لدينا هنا هو مجرد وصف»لدينا مبررات كثيرة لاحتمال عدم دقته»، ولا يقدم لنا علاقات سببية. بمعنى أن هذه الدراسة لا تساعدنا على معرفة لماذا لا تساعد الأسرة على تنمية الثقافة الغذائية لدى الطلاب، ولا حتى الأسباب التي بناء عليها أجاب أفراد عينة الدراسة.
التوصيات بعد كل هذا تضعف دلالتها وقيمتها، وهذا ربما يجعلنا نفسر ولو لدرجة بسيطة الانفصال الحاد بين القرارات والدراسات لدينا. جزء أساسي طبعا ناتج عن إشكالات متعلقة بعملية اتخاذ القرار ذاتها، لكن يمكن لنا أيضا أن نتصور أن الدراسات التي يتم تقديمها تفتقد القوة العلمية التي تجعل من الاعتماد عليها ممكنا.
استمرار هذا النوع من الدراسات مدفوع بتحول العمل البحثي إلى عمل شكلي يتم إنجازه للحصول على درجة علمية معينة، بحثا عن امتيازات وظيفية لاحقة. كذلك هذا النوع من البحوث لا يحوي غالبا أطروحات نقدية يمكن أن تثير قلقا أو إرباكا للتقاليد المستقرة والإجراءات الثابتة في تلك المجالات المعرفية. كذلك الدراسات الإحصائية تعطي انطباعا شكليا بالدقة العلمية خلال تقديم أرقام ونسب وإحصاءات. أتفَهّم أن يشكل هذا النمط من البحث جزءا من البيئة العلمية، ولكن حين يهيمن، فنحن أمام فقر معرفي مدقع.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2017/04/26