ركوب البِغال
محمد عبدالله محمد
إلى أيّ مدى وصل تطور الإنسان؟ ربما لا يستطيع المرء أن يتنبأ بذلك. ففي كل لحظة، يتبدَّل ذلك المدى. فقبل ساعة من الآن كان شيئاً وأصبح الآن شيئاً آخر. لكن، هل يستطيع هذا الإنسان المتقدِّم في علمه، أن يستغني «مثلاً» عن الكلاب عندما يقع زلزالٌ ما كي تعينه على البحث عن الناجين أو عن الجثث من تحت الركام؟ بالتأكيد لا، فمن أين يأتي الإنسان بـ 250 مليون حاسَّة شَمِّيَّة يتمتّع بها الكلب، فضلاً عن طبيعة جسميّة مرنة يتنقل بها على الركام وداخل الثقوب؟
لذلك فإن التطورات العلمية هي «الغالبة» وليست «المالِكَة» لهذا العالَم وبالتالي فهي لا تُغطِّي كل شبر من احتياجات الحجر والبشر، ولا تحتكم إليها «كل» السلوكيات والتعاملات. هذا الأمر لا يتعلق فقط بالنواحي المدنية والعلاقات الإنسانية، بل يتخطاها إلى النواحي العسكرية والصراعات أيضاً. فالمدفع قد لا يصيب الهدف أمام رمية يدٍ لعبوة بدائية ضد هدف قريب. بل كل هذه الوسائل العسكرية المتقدمة لا تساوي شيئاً أمام حركة الجند «مشياً» على الأرض كي تحسم.
دعونا نتعمَّق ونُفصِّل أكثر. عندما انزوى مقاتلو تنظيم القاعدة من جبال تورا بورا باتجاه المناطق الشمالية الغربية لباكستان حيث وزيررستان الجنوبية والشمالية وخيبر وباجوار وكورام وموهماند وأوراكزاي بدا أن الأمر عصِيٌّ على المواجهة أمام الجيشيْن الباكستاني والأميركي. فهذه المنطقة ذات الـ 27220 كم، والمرتفعة عن الأرض بـ 8000 قدم، لا يشقها طريق مُعبَّد سالِك واحد.
وعلى مرّ التاريخ لم تَلِجها أيّ قوة في العالم بما فيه الدولة الباكستانية التي تقع هي ضمن أرضها، تاركة إدارة ملايينها الثلاثة من البشر إلى نظام قبلي معقد يتأمَّر فيه زعماء القبائل كما يُذكَر. حتى اتفاقية ديوراند (نسبة لوزير خارجية بريطانيا الأسبق سير مارتيمور ديوراند) عام 1893م بين الهند وبريطانيا نصَّت في أحد بنودها على ما أسمته بـ «حقوق التساهل» التي تعطي ساكني هذه المنطقة حرية التعامل مع الضفة الأفغانية نظراً لخصوصية العلاقات الأسرية والعرقية والاجتماعية التي تربط الضفتين الباكتسانية والأفغانية منذ مئات السنين أو يزيد.
في العام 2001م، وعندما بدأت الحرب السوداء بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها ضد تنظيم «القاعدة»، اضطر الجيش الباكستاني أن يجمع البِغَال من كل أرجاء باكستان ليُشكِّل بهم «كتيبة نقل» تدعم جنوده كما يذكر برويز مشرف في مذكراته. كانت فاعلية البِغَال تفوق فاعلية الدبابات ومدرعات الجند وسيارات الدفع الرباعي؛ كونها تسطيع السير في ممرات متعرجة وبعرض متر واحد.
ما أريد أن أخلص إليه هو أنه ومهما بلغ بنا التطور تبقى حاجاتنا إلى الوسائل الأوَّلية أو الأصليَّة حاضرة. وإذا ما أسقطنا ذلك على أهم ملف لدينا الآن وهو الصراع مع التطرف سنكتشف أن الدول لم تتبع طرقاً هي أمضى من غيرها؛ لأنها اعتمدت بشكل أساسي على ما وصل إليه تقدمها العلمي والمادي وبالتحديد جانب القوة العسكرية فيه. وهو خيار ضمن خيارات متعددة لا أكثر لكنه ليس أفضلها ولا أسبقها، ولا هو القادر على حسمها حتى ولو استمر الصراع قرون.
باعتقادي، فإن المعركة الأساسية مع هذا الفكر هو مواجهته بما يواجهنا والعالم به. لا أعني المواجهة بالذبح أو التفجير، بل بالخطاب، الذي بمثل ما يُقنع هو به ضحايا (وهو بحجّة ضعيفة) يمكننا أن نقنع مريديه (ونحن بحجّة قوية) أن تلك الأفكار ما هي إلاَّ سفاسف. وكما قال الشاعر الألماني غوتفريد: «في البدء كانت الكلمة وليس الثرثرة، وفي النهاية لا تكون الدعاية بل الكلمة كذلك». لذلك رأينا كيف أغرق الألمان بلادهم طولاً وعرضاً بعد الحرب العالمية الثانية بخطاب العقل كي يقضوا على قناعة الناس بالأفكار النازية، ويُقوِّضوا أركانها وحججها وحققوا نجاحاً باهراً.
فالصواريخ والمواجهة بالبنادق (رغم أهميتها) لا تَلِج أدمغة هؤلاء ولا تعالج ما يؤمنون به، فهو سلاح كفيل بأن يقضي على الأجساد، التي قد يُعوِّضها التنظيم بدعايته فضلاً عن فرصته لنعت قتلاه بالشهداء، لكن سَلْبُه عنصراً من عناصره أو مؤيداً من مؤيديه في هذا العالم يساوي عشرين من قتلاه، لأن استقطابه سيُحوّله لخصم مستقل لأتباع التنظيم فضلاً عن الرضوض المعنوية.
أيضاً، دعاية الحرب «وحدها» لا تكفي للقضاء عليه. فالشَّيطَنة وإطلاق النعوت المُجرِّمة بحقه لا تؤدي إلى الإضرار به، بل على العكس، هو يتلذَّذ بتلك الدعاية، ويُوظفها في خدمته عبر تحويل نفسه إلى كيان مستَهدَف يُقال فيه ما لم يقله مالِكٌ في الخمر. وبالمناسبة، لطالما قام التنظيم بذكر تلك النعوت في الإصدارات التي ينشرها بما فيها لفظة داعش أو إرهابيين حتى.
كلنا لا يعلم عن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) سوى صورته في الإعلام والميدان، لكننا لم نقرأ أدبياته ولا أفكاره كي نقوم بمواجهتها. في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي نشر روبرت إيفانز تحليلاً علمياً رائعاً عن التنظيم. ويكاد يكون ذلك التحليل هو الوحيد الذي قام به أحد المعنيين بالمواجهة الفكرية والتفكيكية أمام أفكار وخطاب تنظيم الدولة بشكل دقيق.
قرأ إيفانز 700 صفحة من أدبيات داعش المنشورة وتوصل إلى أشياء كثيرة كان يمكن أن يستفيد منها خصوم التنظيم لمواجهته بها دون «الحاجة الحصريَّة» للسلاح. انتهي إلى أنه وبمثل ما استطاعت البِغال (وهي الوسيلة البدائية للنقل) أن تعبر الممرات الضيقة بعد أن عجزت عن ذلك المجنزرات، فكذلك الكلمة، فهي القادرة دون سواها أن تَلِجَ إلى عالَم هؤلاء كي تقلبه عليهم.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2015/12/12