أين تعلم هؤلاء؟
د. عبدالرحمن الطريري
الصناعيات أو الورش الخاصة بإصلاح السيارات تنتشر في أرجاء مدننا، ومن يقدر له زيارة إلى إحدى هذه الورش لإصلاح سيارته، فإنه سيُفاجأ بخلوها من السعوديين العاملين في إصلاح السيارات، بل إن ما يلفت الانتباه أن كل الجنسيات توجد، وفي جميع التخصصات ذات العلاقة بالسيارات (ميكانيكا، كهرباء، وسمكرة) وكل الأعطال. يجد المرء (الباكستاني، الهندي، المصري، السوداني، السوري، الفلبيني، واليمني) الذين يمثلون الأغلبية في الآونة الأخيرة.
هل كل هؤلاء يجيدون الصنعة؟ ليس الأمر كذلك، وهل هم مخلصون ويزاولون أعمالهم بأمانة؟ قد لا يكون كذلك.
في زيارة لإحدى الصناعيات مرة من المرات صادفت شخصا عند أحد محال بيع قطع الغيار، جاء ليعيد كمية من قطع الغيار الجديدة التي طلبها الفني، الذي يتعامل معه منذ عشرين سنة كما يقول، لكنه بإدخال السيارة للفحص الدوري اجتازت السيارة الفحص، واكتشف أن القطع المشتراة لا حاجة إليها، لذا أعادها للبائع، الذي صادف وجودي عنده، قبل استخدامها. مثل هذا التصرف يلفت الانتباه إلى أن المجال لهؤلاء مفتوح، ليتصرفوا كيف شاءوا، دون ضمير يردعهم، أو جهة رسمية تنظّم عملهم، حتى لا تكون السوق المحلية مجالا للتلاعب، ونهب المواطن، وغيره من ملاك السيارات.
كلما أذهب للصناعية أحاول أن أفتح النقاش مع الفني لمعرفة الخلفية المهنية، ونوع التأهيل الذي يحمله للتثبت من مقدرته على إصلاح الخلل، وهذا ليس تشكيكا في قدراته الفطرية، بقدر ما هو استغراب من ثقته المطلقة بإصلاح الخلل، رغم أن السيارة قد لا تكون من السيارات الشائعة في بلده، وربما لم يسبق له حتى ركوبها، ذلك أن سوقنا مفتوحة على كل المنتجات العالمية من اليابان، والصين، وكوريا شرقا إلى أمريكا في الغرب مرورا بأوروبا، ولدينا سيارات، ذات تقنيات عالية، ودقيقة، ومع ذلك تجد مَن يبدي استعداده لإصلاح الخلل الذي فيها.
لوحات الورش بأسماء سعودية، لكن لا يوجد من يعمل داخل هذه الورشة، ولا حتى عملا إداريا، كالإشراف، أو المحاسبة، وهذا الوضع يزيد الأمر لبسا وغرابة، فأين السعوديون الذين درسوا في كليات التقنية، وفي المعهد الصناعي الثانوي، والذين تخرجوا في كل التخصصات؟ هل هم زاهدون في العمل كلية، أم هم زاهدون في الأعمال الفنية، رغم مردودها العالي جدا؟
ليس لديّ إجابة دقيقة، عدا كونها احتمالات قابلة أن تكون صحيحة أو خاطئة، والاحتمال الأول بشأن اختفاء السعوديين عن مواقع العمل أنهم هم ملاك هذه الورش، والفنيون الوافدون ما هم إلا عمال لديهم. أما الاحتمال الثاني، فهو أن ملكية الورش صورية، وما هذا إلا صورة من صور التستر، مقابل مبلغ بخس من المال. والاحتمال الثالث أن إعداد السعوديين في برامج المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني لم يكن بالمستوى الجيد، وربما تأهيلهم نظري أكثر منه عملي، لذا يصعب عليهم العمل في مجالات تخصصاتهم؛ ما اضطرهم إلى البحث عن وظائف حكومية، ذات طابع إداري بحت، ولذا تخلو منهم أماكن العمل. كما أن من الاحتمالات أنهم مؤهلون تأهيلا عاليا، لكن ليس لديهم مقدرة مالية تمكنهم من افتتاح ورش العمل.
هل الوافدون أكثر تأهيلا؟ لا أظن ذلك، وكما قلت ربما بعضهم لم ير بعض السيارات إلا عندنا، لكنهم أكثر ثقة، ولديهم دافعية عمل عالية، نظرا لندرة الأعمال في أوطانهم، ما يحفزهم على تعلم كل جديد، وأضرب مثلا بأحد الهنود الذي يعمل حارسا في أحد البيوت في الحي الذي أسكنه، حتى افتقدته، وسألت عنه زملاءه، فأفادوا بأنه ترك الحراسة ويعمل "مساعد ميكانيكي" في إحدى الصناعيات.
من المؤكد أن بعض العاملين في هذه الورش لم يكونوا مؤهلين عندما قَدِموا للمملكة، لكن رغبتهم في تحسين أوضاعهم ساعدتهم على السعي لتعلم الصنعة بالتدريب، والمشاهدة، والانتباه، وهذا ما يؤكده أن بعضهم يقول بلغة الجزم إن الخلل في السيارة كذا، لكن يتأكد فيما بعد أنه ليس كما يقول، وإنما يطبق قانون التعلم بالمحاولة والخطأ حتى لو ترتب على ذلك خراب إضافي في السيارة، بل المفاجأة أنك تسمع عدة آراء من عدة فنيين، كما أن سوق العمل المفتوحة تعطي الوافدين التنقل لممارسة أعمال عدة ما يكسبهم صنعة لم يأتوا إلى المملكة لممارستها. ولعله من المناسب أن تركز برامج المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، على التطبيق، حتى لو تطلب الأمر جعل نصف البرنامج زمالة في إحدى الورش ليكون الشاب السعودي على مستوى المنافسة، كما أرى ضرورة إخضاع الوافدين لاختبارات فنية بدلا من ترك الأمور بهذا الوضع.
صحيفة الاقتصادية
أضيف بتاريخ :2017/06/01