آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمد عبد الله محمد
عن الكاتب :
كاتب بحريني

الجاهلية ليست جهلاً!

 

محمد عبدالله محمد

 

القراءة الأكثر تركيزاً تمنح المرء صورة أكثر اختلافاً. ومن بين تلك الأشياء «المختلفة» التي تُنتجها القراءة هي النظرة إلى المجتمع العربي الذي سَبَق ظهور الإسلام، والذي كان يُنعَت بالعصر الجاهلي. فالفكرة السائدة، هي أن ذلك العصر هو عصر انحطاط وتخلّف وتفسّخ وصراعات، وجهل بأبسط أنواع الفهم للحياة، والعلوم بما فيها القراءة والكتابة.

 

الحقيقة أن تلك النظرة ليست صائبة، وشابها نوع من التجنِّي والافتئات. فالأوضاع التي كانت سائدة في العصر الجاهلي لا تختلف عن أيّ أوضاع أخرى، من حيث وجود الخير والشر، أو العلم والجهل، أو النظام والفوضى، أو الأخلاق والانحلال. وهي أشكال نعيشها نحن أيضاً في هذا العصر الذي يُشهَد له بالتقدم. لذلك، كان أهل ذلك العصر ضمن هذا التوصيف لا أكثر ولا أقل.

 

سأتناول هنا أمرين اثنين، الأول يتعلق بالوضع العلمي والثقافي للعصر الجاهلي والأمر الثاني يتعلق بالوضع القِيَمي والأخلاقي، كونهما الصورتين اللتين رُسِمَتَا عن ذلك العصر بطريقة خاطئة. علمياً، لم يكن أهل الجاهلية جُهَّالاً أو أميين كما قيل عنهم، بل كان فيهم من العلماء والحكماء والمثقفين الذين أبهروا محيطهم لِسِعَة علمهم، والذين عدَّدتهم كتب التراث والسِّير والتفسير.

 

وقد وُصِفَ عبدالله بن عمرو الذي أدرك الحقبتين الجاهلية والإسلام بأنه «كان قارئاً للكتب المتقدمة، ويكتب بالسريانية والعربية» كما قال الدينوري. بل كانت هناك مدارس ومُعلِّمون من أبرزهم عمرو بن زرارة الكاتب، وغيلان بن سلمة بن معتب وبشر بن عبدالملك السكوني وعدي بن زيد العبادي. وكانت هناك مواطن للعلم، تميَّزت بها قبائل عربية أكثر من غيرها كالثَّقفيين كما يذكر المؤرخون. لذلك اشتُهِرَ قول عثمان بن عفان بعد أن هَمَّ بجمع القرآن الكريم: «اجعلوا المُمْلِي من هذيل والكاتب من ثقيف». وقد وجدتُ نصاً في الطبقات الكبرى منقول عن عبيدالله بن عمر أن رجلاً نصرانياً يُدعى جُفَيْنَة من أهل الحيرة كان يُستَقدَم إلى المدينة كي يُعلِّم أهلها الكتابة.

 

وهنا أمر جدير بأن يُذكر، وهو أن العرب في الجاهلية كانوا متأثرين بالحنيفية الإبراهيمية، وبعضهم على أديان توحيدية قديمة، لكن العلاقات الاجتماعية بين العرب المنتمين إلى أديان مختلفة كاليهودية المسيحية كانت جيدة، ولم تشهد المنطقة نزاعات على أسس دينية، لذلك كانوا في حالة تبادل خبرات ثقافية واقتصادية، وكان اليهود في الجاهلية يقومون بدور في مسألة التعليم. وعندما وصل الفتح الإسلامي إلى العراق الذي كان نصرانياً وجدوا أهله يقرأون ويكتبون.

 

لذلك، كان كثير من العرب يجيد لغات متعددة كالحبشية والفارسية والقبطية والرومية. وقد ذكر ناصر الدين في مصادر الشعر الجاهلي أن عدياً بن زيد العبادي أجاد الكتابة بالفارسية حتى «أصبح كاتباً بالعربية ومترجماً في ديوان كسرى». كما كان لقيط بن يعمر الإيادي يتمتع بالشيء ذاته.

 

بل إن ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي كان أكثر من ذلك، حيث وبسبب تنصّره في الجاهلية، كان يكتب العبرانية. وكما ذكر ابن عساكر فإنه «يكتب الكتاب العربي فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب». إذاً، لم يكن أهل الجاهلية جهالاً في العلم والكتابة والقراءة.

 

الأمر الثاني وهو المسألة الأخلاقية. فقد كان الإنسان الجاهلي يمتلك شيئاً من القيم الأساسية التي تحكم البشر عادة، من حيث الإحسان ونبذ الظلم ونصرة الضعيف بل وحتى ترك المنكرات من عبادة الأوثان وشرب الخمر. وقد جاء في الملل والنحل للشهرستاني أن زيد بن عمرو بن نفيل أحد حكماء الجاهلية «يكره عبادة الأوثان ووأد البنات». ويُذكر أن الشاعر الجاهلي أمية بن أبي الصلت كان «ممن حرموا الخمر على أنفسهم و نبذوا عبادة الأوثان في الجاهلية».

 

وهذا الأمر يدلّ دلالة واضحة على أن المعتقدات في الجاهلية كانت لها جذور إبراهيمية وتوحيدية. وقد أشار الشوكاني في فتح القدير ناقلاً عن الطبراني عن عبدالله بن الزبير أن الناس في الجاهلية: «إذا وقفوا عند المشعر الحرام دعوا فقال أحدهم: اللهم ارزقني إبلاً، وقال الآخر: اللهم ارزقني غَنَماً» وهو ما يؤكد تلك الجذور الدينية للناس في تلك الفترة والتي أشرنا إليها ومن بينها الإيمان بالله.

 

وقد وجدت في التفسير الأمثل للشيخ المكارم أن الناس في الجاهلية كانوا يكرهون الزواج من نساء آبائهم «ويصفونه بالمقت، ويسمّون ما ينتج منه من ولد بالمقيت، أي الأولاد المبغوضين» وهو ما ينسجم مع رأي القرآن الكريم كما في الآية رقم (22) من سورة النساء: «وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا».

 

كما جاء في أحكام القرآن للجصاص الحنفي نقلاً عن يونس بن بُكَير عن أبي بكر الهُذَلي عن الحسن أن الناس في الجاهلية كانوا إذا ذبحوا ذبائحهم «شَرَّحُوا اللحم ووضعوه على الحجارة وقالوا لا يَحِلُّ لنا أن نأكل شيئاً جعلناه لله حتى تأكله السِّبَاع والطير».

 

أخلص إلى نتيجة، وهي أن المجتمع الذي سبق ظهور الإسلام لم يكن بالشكل الذي صُوِّر لنا، بل إن حاله مختلف. نعم كانت هناك «أمّيّة دينية» لتفاصيل الأديان التي باعدتها السنين، وأشكال معينة للتخلف والصراعات لكنها لا تخرج عن طبيعة البشر في كل المجتمعات بما فيها مجتمعنا اليوم.

 

صحيفة الوسط البحرينية

أضيف بتاريخ :2015/12/17

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد