التسميات الإيديولوجية القاتلة
صالح زياد
القيد الإيديولوجي هو الذي جعل الجماعات الإسلامية تتعدد وتتكاثر في الوطن الواحد والمذهب الديني الواحد، وجعلها تمارس من العداوة تجاه بعضها بعضا مثلما تمارس تجاه غيرها
الأسماء والأوصاف والأصناف ليست ألفاظا يمكن النظر إليها بمعزل عن سلطتها على الفهم، وإنما هي فعل إدراك ورؤية واعتقاد ووجود لما تسمِّيه أو تصفه أو تصنِّفه، بحيث لا يغدو تصور الموصوفات والمسميات والمصنفات أو إدراكها أو الحس بوجودها ممكناً من دون الأسماء التي تسمِّيها والصفات والأصناف التي تصفها وتصنفها.
وهذه مسألة مفهومة في شأن اللغة بمعناها اللساني أي الكلام، وبمعناها المرئي والمحسوس في علامات يُستدَل بها على مدلول معين، على نحو ما هو موصوف في علم العلامات (السيميولوجيا). وقد أصبحت إطاراً لتواتر عديد المذاهب الحديثة في التأكيد على خطورة اللغة وأهميتها بأكثر من وجه.
منبع هذه الأهمية ومحور ارتكازها يتضح من التصور اللساني والسيميولوجي الذي ينفي أن تكون الكلمة (أو العلامة) دالة -كما هو شائع- على الشيء الذي يُقصد به الدلالة عليها في الواقع الحسي، وإنما دالة على مفهومه وصورته الذهنية، فهي لا تحيل إلى شيء أو عيان وإنما إلى كلمة أو علامة أخرى.
إذ يترتب على ذلك أن الكلمات وما في حكمها من العلامات تصنع الأشياء بمعنى من المعاني، أي تُوجِد تصورها وإدراكها والشعور بها، فيغدو المعنى مفعول اللفظ، والوجود مفعول المظهر، ولا يُستنفَد الكلام عن أي شيء، وفي النتيجة ينتفي الوجود خارج ما تحيط به اللغة. ونجد هذا الإدراك لما تعنيه اللغة من قيمة وجودية وشعورية تجاه ما تسميه أو تمنحه هويته، حين نقرأ في «الهوامل والشوامل» لأبي حيان التوحيدي، قوله:
«فليس بعجب أن يألف إنسان اسم نفسه حتى إذا غُيِّر ظن أنه إنما يُغَيَّر هو، وإذا دُعي بغير اسمه فإنما دعي غيره، بل يرى كأنما بدل به نفسه». هكذا نفهم فعل التسمية، بل نفهم كل ما يُشتهر به شخص أو شيء، من اسم أو مظهر أو رائحة أو زي أو قيمة أو وزن أو منصب أو شهادة... إلخ، فهذه الأسماء والصفات التي تطرأ عليه وتلحق به، تصبح جوهره، وليست ماهيته -عمليا- شيئا غيرها.
ومن هذه الوجهة نجد عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، يرى أن تسمية الماركسية للطبقات ووصفها هو الذي أوجد الطبقات في وعينا بها، وجعلنا نعتقد أن المجتمع لا يوجد إلا طبقيا.
وهذا منفذ لديه لنقد الماركسية -وهي مؤسَّسة، كما هو معروف، على التفسير المادي الجدلي للتاريخ- لأنها لم تلتفت إلى فعل الكلمات في صنع العالم الاجتماعي، فلو استبدلنا وصفا بآخر أو تسمية بغيرها، فلن نُغيّر الكلمات فحسب، بل نغيّر النظر إلى العالم الاجتماعي.
والمعنى الذي نستنتجه من ذلك مهم منهجيا في البحث عن ذهن محايد خارج ما تفرضه اللغة من تصورات وانحيازات وإيديولوجيات: ذهنٍ يستطيع أن يرى خارج الحروب والاصطفافات المأسورة إلى التمترس خلف الكلمات، والناتجة عنها.
أما ما يهمنا من هذه المقدمة فهو التسمية «الإيديولوجية» التي تختزل، بالتسمية والوصف والتصنيف، الفرد والمجتمع في هوية إيديولوجية محددة نافية بشمولها وحدِّيتها غيرها من الهويات، فتُركِّب الوجود الاجتماعي والكوني على هذه الهوية، وتؤدي بحدِّيتها بالضرورة إلى العنف الذي يكون هذا الفرد والمجتمع ضحيته وأداته في وقت معا. هناك «مسلمون» وهناك «إسلاميون»: المسلمون اسم لمن يدينون بالإسلام، والإسلاميون نسبة إلى الإسلام من وجهة إيديولوجية وليست دينية. وبذلك تقوم العلاقة بين المسلم والإسلامي، من جهة العموم والخصوص، فليس كل مسلم إسلاميا.
حسنا، فهل يلزم عن ذلك أن يكون المسلم «إسلاميا»، وإذا لم يكن كذلك فهل ينتفي إسلامه؟
إذا نظرنا في الرد على هذا السؤال من الوجهة الإيديولوجية، فإن الإسلام لم يعد دينا فحسب بل دين ملابس للإيديولوجيا، وفي هذه الحالة لابد أن يكون المسلم «إسلامياً»، فإن لم يكن كذلك فهو مائع الإسلام، أو ناقصه، وفي أحسن الأحوال جاهل بالإسلام، وعند التدقيق والتجلية لا يبقى مسلما! الإسلام دين يتسع للمسلمين، فهو يجمع اختلافاتهم، فماذا عن الإيديولوجيا الإسلامية؟! الإيديولوجيا لا تقبل الاختلاف عنها، لأنها تفقد عندئذ الافتراضات التي تمارِس بها الجماعة الإيديولوجية سلطتها على الآخرين الذين ينتمون مثل المؤدلجين إلى الدين نفسه، أو إلى الوطن نفسه.
وهذا القيد الإيديولوجي هو الذي جعل الجماعات الإسلامية تتعدد وتتكاثر في الوطن الواحد والمذهب الديني الواحد، فضلا عن تكاثرها في العالم، وجعلها تمارس من العداوة تجاه بعضها بعضا مثلما تمارس تجاه غيرها.
ولنضرب مثلا حيا لذلك من الحرب في سورية، ففي حين يتوافر أَوْجَبُ ظرف للوحدة بين الجماعات المتنافسة في الانتساب إلى الإسلام، وهو تحالف أقوى دول العالم لإفنائها، فإنها تمارس من الاقتتال فيما بينها ما يقارب قتالها ضد عدوها الذي اجتمعت لقتاله.
وهذا ليس جديدا، فقد حدث في أيام الجهاد الأفغاني، وحدث في الصومال، ويحدث إلى الآن بين حين وآخر في ليبيا...
هنا نرى وجودا اجتماعيا دينيا منقسما ومتنازعا، بسبب اختصاص جماعة لنفسها بتسمية ذات نسبة إلى الإسلام، أي إلى المطلق، تؤهِّلها لممارسة سلطتها الإيديولوجية المطلقة على غيرها. وهو ما استلزم بالضرورة المزايدة عليها من قبل جماعات أخرى، بالمبرر الإيديولوجي نفسه، مضافا إليه الانتقاص من «إسلامية» غيرها.
وإذا لم يكن من سبيل إلى تجنب المزايدة الإيديولوجية في ادعاء النسبة إلى الإسلام، فليس من سبيل إلى تجنب الاقتراف للعنف وسفك الدماء باسم الإسلام، ولا إلى بروز جماعات «إرهابية» مختلفة، تجتمع في الزعم بنسبتها إلى الإسلام، وتتوارد على تلبيس الدين بالإيديولوجيا، وعلى التغطية على الانتهازية السياسية والدنيوية بمقاصد تعبدية سامية. التسمية والوصف والتصنيف لا تستنفد الكائن، أي كائن، فما بالك بالإنسان؟! أن تسجن كينونةً في اسم أو وصف أو تصنيف يعني أن تفقرها من المعنى، وتغلقها عن التطور، وتفرغها من التجربة الإنسانية، ومن الثقافة، والتاريخ.
عندما تكون الإيديولوجيا شمولية تغدو التسمية للإنسان أو وصفه أو تصنيفه بها ترشيحا مفتوحا له ليكون -على الأرجح- قاتلا أو مقتولا. ألم نقل إن التسميات والأوصاف ليست ألفاظاً بلا قوة اجتماعية وبلا سلطة؟! الكلمات على هذا النحو تستدعي حروبا، والحروب على التسميات والأوصاف هي حروب على الهوية والانتماء وعلى الثقافة؛ هي الحروب الأهلية الحزبية والطائفية والفئوية بكل أشكالها.
هذه هي «الهويات القاتلة» كما سماها أمين معلوف، ويعني بها، فيما وصفها: «الهويات التي تختزل الهوية إلى انتماء واحد». وهي قاتلة لأن حصر الشخص أو المجتمع وانحصاره في انتماء واحد يضعه في موقف التحيز له وضده، أي الموقف الفئوي والمذهبي المتعصب والمتسلط، وهذا -بالنتيجة- موقف «انتحاري» بامتياز.
وليس الأمر قاصرا على الإيديولوجيات المتسمِّية باسم الإسلام والموصوفة به، فكل التسميات الإيديولوجية الشمولية على ذلك النحو، كانت وتكون قاتلة، لأن لفظيتها تستدعي المزايدة عليها، وتتضمن النفي لغيرها.
هكذا كانت الشيوعية، وهكذا كانت القومية، وهكذا كانت المسيحية وغيرها... ولم يكن القتلُ من المنتمين إلى أي منها موجَّها إلى من ليس له انتماء إليها فحسب، بل كان –أيضاً- قتلاً بتهمة الخيانة أو التآمر أو الانشقاق لمن يتشارك معهم الانتماء والنسبة والتسمية ذاتها.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2017/06/11