المقاومون يفتحون بوابات الأقصى
د. مثنى عبدالله
هو أولى القبلتين، وثاني مسجد وُضع على الأرض بعد بيت الله الحرام، وثالث الحرمين الشريفين. والأقصى ليس شأنا فلسطينيا ولا عربيا فحسب، بل هو شأن إسلامي يشكل مرتكزا أساسيا من مرتكزات العقيدة والإيمان لهذا الدين.
تصوروا لو أن الصهاينة تمكنوا من محاصرة المسجد الحرام في مكة، وأغلقوا أبوابه ومنعوا جموع المسلمين من أداء شعائرهم ومناسكهم، فماذا سيكون رد فعل المؤمنين بهذا الدين في كافة أرجاء المعمورة؟ إذن السؤال المطروح هو لماذا تغافل الكثير من المسلمين، قادة وزعماء وعوام عن هذا الموضوع، ومر خبر حصار القدس الشريف عليهم مرور الكثير من الأخبار اليومية المعتادة، على الرغم من أنه اقترن بالمسجد الحرام في مكة في كثير من النصوص الدينية؟ لماذا لم نر موقفا عربيا أو إسلاميا، أو عربيا وإسلاميا مشتركا في أزمة القدس الشريف الأخيرة يكون بمستوى الحدث وجسامته وجسارته؟
صباح الثلاثاء الخامس والعشرين من الشهر الماضي، أعلنت إسرائيل قرار إزالة البوابات الإلكترونية حول المسجد الأقصى وفتح أبوابه للمصلين والزائرين، بعد أن قررت وضعها في الرابع عشر من الشهر نفسه. ولم يكد القرار الإسرائيلي يوضع موضع التنفيذ، إلا وتبين للصهاينة أنهم وضعوا أنفسهم في مأزق خطير، حيث انفجرت الاحتجاجات الفلسطينية، وتصاعدت إلى صدامات مع قوات الاحتلال في القدس والضفة الغربية. ومع تصاعد الاحتجاجات الفلسطينية التي وصلت إلى حافة الانتفاضة يوم الجمعة الواحد والعشرين من شهر يوليو، حاولت إسرائيل التعنت والإصرار على موقفها، لكنها تفاجأت بأن الموقف بات قاب قوسين أو أدنى من الانفجار. فانطلق صانع القرار الصهيوني يبحث عن السلطات الأردنية والمصرية علنا، وعن سلطات عربية أخرى عبر قنوات سرية، علّهم يقدمون المساعدة له في إيهام شعبنا الفلسطيني بوعود معسولة وحلول جوفاء، بغية الضغط ونزع فتيل الأزمة لصالح الصهاينة وليس لصالح المقدسيين. غير أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل أمام إصرار المقدسيين على إعادة الوضع إلى ما قبل قرار وضع البوابات. ولأن البوابات باتت رمزا من رموز الوحدة الوطنية والصمود البطولي والقتال السلمي بصدور عارية، ولأن بيت المقدس ما زال ومضة معنوية في عقل وقلب كل فلسطيني، فقد وعى الصهاينة بأن ما فعلوه في القدس الشريف كان تصرفا أحمق وتهديدا أمنيا محتملا فتنازلوا للمقاومين.
إن قرار وضع البوابات والكاميرات والتحكم بالعبادات في القدس الشريف، لم يكن عملا اعتباطيا، ولا تصرفا صبيانيا ولا خطأ ارتكبته الحكومة الإسرائيلية، إنه الخطوة الأولى نحو السيطرة على باحات المسجد الأقصى، تليها خطوات أخرى تقود إلى تهويد القدس الشريف. فالكيان الصهيوني لديه مشروع جاهز لفرض السيادة الإدارية على المسجد، وأن الإجراءات الأخيرة التي فجّرت الموقف لم تكن هي الأولى، بل هي مكملة للإجراءات السابقة. فهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها غلق المسجد، حيث أغلق عام 2015 في شهر رمضان ليوم واحد.
كما أن المراقب يستطيع أن يرصد المضايقات المتكررة والمستمرة للمقدسين وعامة المصلين، منذ عقود من الزمن، وأنهم يعانون من حصار مستمر، حيث يتواجد حول الحرم الشريف ما يقارب الأربعين ألف شرطي إسرائيلي، وهو عدد يشير بكل وضوح إلى حالة حصار دائم، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مساحة المسجد التي تبلغ 144 ألف متر مربع، وبذلك فإن محاولة تقسيم المسجد الأقصى بإطاره الزماني والمكاني، ليس بوضع البوابات الالكترونية والكاميرات، الذي تم مؤخرا قبل أن يجبروا على الإلغاء. ففي عرفهم أن المسجد الأقصى هو فقط المسجد القبلي وفيه قبة الصخرة. أما ما يحيط به من باحات فأن الخطة الإسرائيلية تقوم على أساس جعل الباحات ساحات عامة، كي يتم تقزيم مساحة الحرم القدسي، وهذا ما لا يقبل به الفلسطينيون ولا العرب ولا حتى المسلمون.
ومع أن الأزمة تم نزع فتيلها، وأن الكاميرات تمت إزالتها، والبوابات فتحت من جديد، لكن أسباب الأزمة ستظل قائمة، لان القدس الشريف أرض محتلة معترف بها هكذا في القوانين والقرارات الدولية، لكن الحكومات الإسرائيلية ستبقى تحاول اختلاق الحجج والذرائع لفض هذا التوصيف، وصولا إلى بسط سيطرتها عليه. فالبوابات الالكترونية كانت أساسا لواقع أمني جديد للقدس يهدف للتهويد، ولم تكن ردة فعل على العملية التي قام بها شبان فلسطينيون ضد الاحتلال. هي خطة كانت حاضرة في العقل الأمني لصانع القرار بانتظار الفرصة السانحة. فبسط السيادة الإدارية على القدس الشريف هي أهم خطوة للصهاينة، تمهد لهم الطريق كي ينطلقوا بعدها إلى الدخول في مفاوضات الحل النهائي. لذا فمعركة السيطرة الحقيقية في فلسطين وفي القدس هي معركة المسجد الأقصى، ويستطيع المراقب أن يحدد ملامح هذه المعركة، خاصة من خلال المواجهة الأخيرة، حيث يتبين أن هنالك نوعين من السيطرة حول المسجد. سيطرة إسرائيلية تستخدم فيها كل أنواع العنف والقمع والأسلحة، وسيطرة شعبية فلسطينية واعية تماما لحجم المخطط، وتتصدى تصديا بطوليا لمشروع التهويد.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن الكيان الصهيوني وأطراف عربية، بعضها لديه علاقات رسمية وأخرى ليست كذلك، حاولوا استغلال الحدث وتوظيفه لأغراض سياسية تخدم تطوير العلاقات بينهم.
فإسرائيل وجدت فيها فرصة كبرى لتمازج الآراء مع هذا الطرف العربي أو ذاك، كي تظهر بأنها استجابت لرأيهم بهدف تعلية أقداحهم في الأزمة، كي يظهروا على المسرح العربي بدور البطولة، وبالتالي إعطاؤهم دفعا كي يُثقفوا الناس على القبول بإسرائيل. من الناحية الأخرى حثت بعض الأنظمة العربية إسرائيل على التنازل كي تظهر بوجه ديمقراطي وديع يُشرعن إقامة علاقة معها، وفي الوقت نفسه يُقبّح وجه إيران، ويظهرها أكثر شرا من إسرائيل. فهي لعبة التخادم في زمن بات فيه النضال إرهاب والمقاومة لا تقتل ذبابة، كما يقول أحد الباحثين الإستراتيجيين من عرب الجنسية. فانفتحت القنوات السرية الدبلوماسية والإستخباراتية، وتزاور الوسطاء ودبت الحرارة من جديد في علاقات واتصالات سابقة، خاصة وقد شاع في الفترة الأخيرة التي تلت زيارة الرئيس الأمريكي إلى السعودية، وعقد القمة العربية والإسلامية – الأمريكية، أحاديث سرية وعلنية عن ضرورة إقامة علاقات مع إسرائيل، إلى الحد الذي تم تناول هذا الموضوع بجرأة كبيرة طُرحت فيه الفوائد الناجمة عن ذلك. وبالضرورة سيكون هذا الطرح ثمنه القضية الفلسطينية، حيث أن الكيان الصهيوني، وعلى مدى عقود من الزمن لم يتزحزح عن مواقفه قيد أنمله، وبالتالي فإن الثمن المدفوع لإقامة هذه العلاقة سيكون على حساب حقوقنا الوطنية والقومية.
أن ما حصل في القدس الشريف مؤخرا كان بطله الوحيد هو الشخصية العربية الفلسطينية. كان هزة كبرى لهذه الشخصية. صحيح أنه كان كذلك لكل عربي صميمي ومسلم، لكن المقدسيين والفلسطينيين هم من كانوا في ساحة الحدث، ونصيبهم من وقعه أكثر من غيرهم. لقد واجهوا الحدث بصدور عارية لكن بقلوب مؤمنة ومراهنة على حيوية القيم التي لا يمكن أن تموت فيهم. ولقد كان توسلهم بالمقاومة المنزوعة السلاح المادي، يستند إلى أرضية فكرية تقوم على قاعدة واسعة من القيم والمفاهيم الاجتماعية التي تشجع وتحض على التصدي.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/08/01