ناهض حتر «مات من أفعى في قلب الدار»
فراس الشوفي
لا تختزن حياة ناهض حتر (1960 ـــ 2016)، سيرة كاتب مبدع ومثقّف سياسي متمرّد في شرقٍ دامٍ، وصاحب مشروع محدّد لانتشال الأردن من نهاية حتميّة وحسب.
فالأعوام الصاخبة، لذلك المؤمن الموحِّد، تعجّ بالرموز والوسوم؛ من ذاته المشتعلة بالشعر والحبّ وفنّ المقالة والخطابة والكتب، إلى مركّبات شخصيته الحادة واندفاعه نحو الخطر وجرأته في مواجهة السلطان.
ثم تماهيه الكلّي، بهذه المكنوزات، مع الانتماء المشرقي والارتباط بسوريا كجذرٍ تاريخي واقعي، قومي وسياسي؛ حتى لحظة استشهاده، مظلوماً مستضعفاً على درج قصر «العدل» في عمّان.
في مقالته الشهيرة عن مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة، «77 عاماً على الحزب، لكنّ سعادة لم يأت بعد!» (الأخبار 10 تشرين الأوّل 2009)، يصل ناهض في واحدة من خلاصاته، إلى «الانطلاق من لحظة سعادة الاستشهادية، لإدراك أن الأسلوب النضالي في نشر الدعوة فات أوانه، لكن نشر الدعوة يظلّ ضرورة روحية راهنة، وضرورة سياسية آجلة....». إلّا أن صاحب كتاب «الخاسرون: هل يمكن تغيير شروط اللعبة؟»، سرعان ما استدرجته غواية النّضال، غير مكترثٍ للّحظة السياسية المصيرية التي يقف عندها الأردن، وبروزه شخصيّاً، كرمزٍ يعاند مُرَكَّباً متقاطعاً من المصالح والجسور، بين «نيوليبرالية» الحكم الهاشمي والوهابية والإخونج وضرورات قيام الدولة اليهودية المنتظرة. متمّماً بذلك، في لحظة استشهاده المأسوية، روايته، برومانسية قاهرة، مشابهة لجلاجل الشهداء، من عصر الميثولوجيا إلى فجر المسيح والحسين.
ولعلّ استشهاد ناهض حتر، بهذه السردية بالذات، على يد قاتلٍ جاهل، يدّعي نصرة التوحيد ضد «وثنية» حتر و«زندقته» المفتعلة من السلطة، يكشف عمق المأزق الذي وصل إليه حكم الهاشميين، بتفضيلهم تصفية «الكافر» على درج قصر عدل الدولة «المفترضة»، وحصر شرعية الاقتصاص من «الكفار» بقرار الديوان الملكي، في حرص على شرعية إسلامية تُنشد «صفقة العمر» بالتماهي التام مع الإخونجية الأردنية، المتحالفة مع الوهابية السعوديّة والدور الإماراتي الجديد، والمنقطعة عن إخونجية تركيا ــ قطر.
تماماً كما حياته،يختصر موته لحظة مفصليّة من عمر الأردن
سؤال ناهض في مقاله «من هو الأردني؟» (جريدة الحدث ــ 1 تشرين الثاني 1995)، يظلّ السؤال الأعمق في مأزق الهوية في الشرق والكيان الأردني، منذ تأسيسه. يُثَبِّت صاحب كتاب «المقاومة العراقية»، الأردن ومحافظاته التاريخية الثلاث، الإجابة عن سؤال «من هو الأردني؟»، بأن «الأردن ليس وطناً نهائياً، بل جزء من وطن سوري عربي كبير، والنسب الأردني ليس قوميّة والأردنيون ليسوا أمّة، بل جزء من أمّة ستنتصر وسيكون لها دولتها». وهو لا يُغلق سؤاله بالحدود، مؤكّداً أنه «في الدولة القومية، سيكون للأردن كيان وللأردنيين هويّة»، كما للبنانيين كيان وهويّة. لكنّه يجزم بأن «السؤال مفتوح باتجاه العرب، وليس مفتوحاً أبداً باتجاه إسرائيل ومشروعها لتصفية القضيّة الفلسطينية». وفي الجزء الأخير، تكمن رؤية ناهض ووعيه السياسي والمستقبلي لخطر انخراط الهاشميين في لعبة تصفية المسألة الفلسطينية. وتردُّ أيضاً، على الاتهامات الجائرة التي وُجّهت لناهض، بالعداء للفلسطينيين كشعب، من بعض اليسار الأردني والفلسطيني واللبناني، بشقّيه الانفعالي والمرتَهَن، بعدما ساهم في تغذيتها بعض كتاب الصحف الخليجية «ومثقّفو عزمي بشارة» والإخونج، متناسين أن ناهض حمل لواء الدفاع عن حركة حماس، يوم كانت حركة مقاومة فلسطينية مكروهة من النظام الهاشمي، وليس ذراعاً لتنظيم الإخوان المسلمين العالمي. ولم يكتفِ أعداء ناهض بهذا الاتهام، بل خيضت ضدّه حروب من الشائعات عن ارتباطه بما يسمّيه الملك عبدالله، «الهلال الشيعي»، وهو الذي كان يرى في المقاومة اللبنانية وحزب الله «القلب المسلّح لحركة التحرّر العربي» (مقال هذا هو الله وهذا هو حزبه ــ «الأخبار» 25 أيار 2013)، ووجّه انتقادات لإيران، غيرةً على سوريا العلمانية.
وناهض، كان الصوت الصارخ منذ وصفي التلّ (شهيد الحركة الوطنية الأردنية المعاصرة الأبرز، ورئيس الوزراء الأردني الذي اغتاله النظام الهاشمي في 1971)، لبروز وطنية أردنية غير متقوقعة، ترى حياة الأردن ومصالحه الاقتصادية والأمنية وأمانه الاجتماعي كجزء من الوطن السوري. يصفه صديقُه الدكتور طارق مرِيْوِد التلّ، بـ«وصفي التلّ الجديد بالنسبة إلى الوطنيين»، وأن «ناهض أعاد إنتاج منهجية وصفي التلّ، بعدما أمضى أعواماً في قراءة أوراقه وأرشيفه التي سلّمه إياها والدي».
ورفض التوطين الفلسطيني في الأردن ومواجهة أصحاب هذا المشروع، هو الوطنية بحدّ ذاتها، كما هو في لبنان. ليس ضيقاً بالفلسطينيين، إنّما رفضاً لتحويل الأردن إلى «اسفنجة»، تمتصّ الفلسطينيين، تمهيداً لسلب الدولة اليهودية كامل الأرض وتصفية القضية. وبمعنىً أدقّ، كتب ناهض فكرته الكاملة في جملة واحدة: «أردنة الفلسطينيين تعني تهويد فلسطين» (من هو الأردني؟ ــ الفقرة السادسة)، ليكون ردّ الملك حسين بن طلال عليه في خطاب عام 1995، «هناك مَن يسأل مَن هو الأردني. وأنا أسأل: ما هو الأردن؟ الأردن لا شيء في الأصل، إنما صنعه الهاشميون» (الأخبار، ردّ ناهض حتر على جوزف مسعد، 18 أيلول 2011).
التوريث والضفتان
لم يكن نظام الهاشميين منخرطاً في مشروع أردنة الفلسطينيين، وتثبيت وطنٍ بديل لهم على الضفة الشرقية، أكثر مما هو غارقٌ اليوم. فتلك العائلة التي تَحْكُم الأردنيين، ولا تُحَكِّم شؤونهم، باتت تدرك الآن أن استمرار الحكم الهاشمي، منذ تولّي الحسين بن عبدالله وابن الملكة رانيا، ولاية العرش، لا يستقيم إلّا بإلغاء «فكّ الارتباط» بين الضفتين، الشرقية والغربية في حكم كونفدرالي، بعد فشل «الحكم الفلسطيني»، وانكشاف المنظومة العربية. ما يقوم به النظام الهاشمي اليوم، هو استسلام كامل لشرق شمعون بيريز «الجديد»، حيث يقول: «إن الكونفدرالية هي الهيكل الذي سيسمح للمملكة الهاشمية والكيان الفلسطيني بالعيش معاً بسلام»، وأنه «ليس أمام الأردنيين والفلسطينيين من خيار سوى التعايش المشترك» (الشرق الأوسط الجديد، صفحة 195، الطبعة الأولى عن دار الأهلية 1994). وعودة ارتباط الضّفة الغربية بالأردن، التي حرص النظام على ترك جذورها راسخة في «الدستور» بعد اتفاق «فكّ الارتباط» في 1988، تشرح الجهد الحثيث، الذي تضطلع به الملكة رانيا اليوم، ابنة طولكرم، ورئيس الديوان الملكي فايز الطراونة ومبعوث الملك الجديد إلى السعودية باسم عوض الله («كوهين الأردن» أو «اختراق صهيوني» في الديوان الملكي الأردني كما قال ناهض علناً في مقابلة مع مقهى عمّان السياسي)، لضمان مشروعية ولاية الحسين الصغير، عبر الهيمنة الكاملة على مفاصل الدولة والجيش وجهاز المخابرات العامّة، ورفع السّتار الشكلي عن النظام البرلماني. ويفسّر أيضاً الدور الذي بدأ «الجوكر» الإماراتي، محمد دحلان وأمواله، بلعبه داخل المملكة، لــ«تدجين» الفلسطينيين في الضفة الغربية والداخل الأردني، بعدما حرصت إسرائيل طويلاً على استمرار التأثير الأردني في فلسطينيي الضفة الغربية. ويقول المدير السابق للموساد الإسرائيلي إفرايم هالفي في كتابه «رجلٌ في الظلال»، وهو أحد أبرز عرّابي اتفاق «وادي عربة»، إن «إسرائيل خلال الثمانينيات بذلت جهوداً متكرّرة لدعم المجموعات والأفراد في الضفة الغربية، الذين يحظون بتأييد الأردن».
غير أن السّعي إلى التوريث، لا يكتمل من دون استمالة جزء من «الإخوان المسلمين»، وأبرز التجليات في الانتخابات البرلمانية والبلدية الأخيرة. فهل كان علي أبو السّكر، الإخونجي وداعم «جبهة النصرة» في جنوب سوريا، وصديق «الداعية» أمجد قورشة، المدافع الأوّل عن «الدواعش»، ليفوز برئاسة بلدية الزرقاء، أكبر بلدية أردنية، لولا هذه «الصفقة»؟ وهو الذي رُفض ترشيحه للانتخابات النيابية قبل عام، لارتباطه بالإرهاب؟ ومن يترك مدينة معان، لتتحوّل إلى إمارة سلفية ــ إخوانية؟ هو ذاته، الديوان الملكي، الذي يرسل رجاله إلى مدن الشمال، لربط العشائر الأردنية الشرقية بشبكة جديدة من المصالح، تضمن مستقبلاً أن لا تتمرّد العشائر، حين يستفيق الأردنيون والفلسطينيون، على «الوطن البديل».
قتل الشاهد
كلّ هذا التآمر، ولم يهادن ناهض حتر. انخرط في سباق مع الوقت، بين الانتصار السوري الموعود، والتحوّلات التي تستجدّ على النظام الهاشمي لإعادة ترتيب أوراقه. غير أن ناهض، الذي خاض حرباً بلا هوادة على الوهابية والإخونج، وعلى اشتراك الملك عبدالله وعرشه في تصفية فلسطين والأردن، والتآمر على سوريا والعراق في حلم «الأردن الكبير» (الذي بدأ مع سقوط الموصل بيد «داعش» في حزيران 2014، وسقط مع وصول أول جندي سوري إلى مثلث الحدود العراقية ــ الأردنية ــ السورية)، عرف كيف يمدّ روابط وثيقة مع شريحة من الوطنيين داخل النظام «الأردني»، تنتابها الهواجس ذاتها، وعلى كتلة واسعة من جسم المتقاعدين و«اللجنة الوطنية للمتقاعدين العسكريين»، منذ ما قبل أن يكتب بيان 1 أيار 2010.
وتماماً كما حياته، يختصر موت ناهض لحظة مفصليّة من عمر الأردن. فالقتلة أرادوا ضرب رمح المشروع الوطني، وكَمَّ الصوت المعبّر عن رفض المستقبل الذي يغرق الهاشميون الأردن فيه. قتل الهاشميون الشاهد «الجريء» على جريمتهم، الحالية واللاحقة.
قال قبل الاستشهاد: ما دامت سوريا باقية، فكلّ شيء قابل للتصحيح
ولعلّهم جزعوا، من أن يستثمر ناهض في النصر السوري، الذي كان يستعجله، ليس للطمأنينة على سوريا فحسب، بل لانعكاسه على الداخل الأردني وفتحه كوّة من الضوء، في جدار الصّراع المقبل على الهضبة الأردنية؛ كما إمكانية أن يربط ناهض جسور شبكة علاقاته الواسعة، من موسكو إلى دمشق وبيروت وطهران، بالوطنيين في عمّان.
وهو كان قد استبق النصر في مقاله «عشيّة النصر»، مستشرفاً استشهاده، حين قال: «منذ طفولتي، لم أفرّق بالحب بين الأردن وسوريا؛ هما، عندي، كما كانا دائماً، بلدٌ واحد. مرّت الحروب والهزائم من دون أن تمسّ اطمئناني. ما دامت سوريا باقية، فكلّ شيء قابل للتصحيح. كان يجب أن تنتصر سوريا لكي يبقى للحياة والأفكار والنّضال، معنىً. عشيّة النصر، أفكّر في أرق التوقعات التي توشك أن تنتهي. أفكّر في الشهداء والجرحى، وأخجل أني لست شهيداً».
وكأن موته صورةً تجلّت أمامه قبل زمن، حين نظم بيوتاً من الشعر لـ«عرار»، والد وصفي التّل، في قصيدته «قمرٌ على البلقاء»:
«مات عرار وكان يئن،
لا من أعداء الدار بل من أفعى في قلب الدار،
مات عرار وكان يئنّ،
أما الأردن فلا يحتمل الأحرار...».
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/09/25