إستراتيجية الأمن القومي الأميركي 2017: السباق نحو القوة
حسام مطر
لا تزال إدارة ترامب تلتزم إلى حدٍّ بعيد مبدأ «القيادة من الخلف» (أ ف ب)
مقدمة
أصدرت الإدارة الأميركية في 18 كانون الأول 2017 الإستراتيجية الجديدة للأمن القومي الأميركي. لا تمثل الإستراتيجية رؤية الرئيس فقط بل تعكس تسوية بين الاتجاهات المختلفة داخل الإدارة. وحين تكون الفجوة بين الرئيس والتنفيذيين كبيرة، كما في الحالة الراهنة، تصبح ملاحظة التناقضات داخل الوثيقة أمراً يسيراً برغم الجهود البلاغية لإخفائها. تقع الإستراتيجية في 56 صفحة، وتُعّد الأطول إذ تزيد عن إستراتيجية أوباما بـ15 صفحة.
كما أنها المرة الأولى التي تنشر فيها الإدارة الأميركية إستراتيجية الأمن القومي في السنة الأولى من الولاية الرئاسية. ويعود ذلك على ما يبدو لإظهار التماسك داخل الإدارة الأميركية وامتصاص الهجمات التي تتعرض لها حول كونها إدارة فوضوية ومربكة ومنقسمة، وأيضاً لتسكين التوترات والخلافات بين البيت الأبيض ومؤسسات الأمن القومي من خلال بناء أرضية لتوافق أوسع حول القضايا الدولية.
اشتملت الإستراتيجية على خطاب افتتاحي للرئيس ترامب ومقدمة وأربعة عناوين أساسية تختصر المصالح القومية الأميركية الحيوية التي يجب حمايتها، كما تتضمن فصلاً حول الرؤية والأهداف الأميركية لكل منطقة إقليمية في العالم. والعناوين الأساسية هي: (1) حماية الوطن والشعب الأميركي وطريقة الحياة الأميركية، (2) تعزيز الازدهار الأميركي، (3) حفظ السلام من خلال القوة، (4) تعزيز النفوذ الأميركي في العالم.
1ــ «أميركا أولاً»
تؤكد الإستراتيجية على شعار ترامب بخصوص «أميركا أولاً»، وهذا هو «الأساس للقيادة الأميركية حول العالم». انطلاقاً من شعار «أميركا أولاً» بررت إدارة ترامب قراراتها في القضايا العالمية مثل الخروج من اتفاقية «نافتا» واتفاقات باريس وتهديد الاتفاق النووي الإيراني. يحاول ترامب في مقدمة الوثيقة أن يقدّم شعار «أميركا أولاً» على أنه بوصلة السياسات الأميركية ومعيار نجاحها؛ أي إن التأثير المباشر لأية سياسة على أمن ورفاهية الشعب الأميركي هو ما يحدد نجاحها. وفي سياق التخفيف من النزعة الانتهازية لترامب، تشير الوثيقة إلى أنها أيضاً تستند إلى «المبادىء الأميركية»، وبالتالي هي «إستراتيجية الواقعية المبدئية التي تسترشد بالنتائج وليس الإيديولوجيا». تحاول الإستراتيجية، بحسب مارك لاندر وديفيد سانغر، أن «تمشي على الخط ما بين شعار حملة ترامب (أميركا أولاً) والإصرار على أنه لا يرفض العمل مع شركاء أميركا ما داموا يفعلون ذلك وفق ما يعزز المصالح الأميركية». ويدلّل مصطلح «الواقعيّة المبدئيّة» على ربط رئاسة ترامب وموازنتها بين شعار «أميركا أولاً» (بالتحديد المصالح الاقتصاديّة لأميركا) وبين مصالح الإمبراطوريّة التقليديّة، وهي موازنة صعبة.
إلا أن النزعة الواقعية طاغية في الوثيقة، رغم محاولات الزج بالقيم والمبادىء في النص. هي واقعية لأنها تقر بمركزية القوة في العلاقات الدولية وتعبّر بوضوح عن المصالح القومية وتشدّد على أن الدول السيدة هي الأمل الأفضل للسلام والاستقرار العالمي. تبرز هذه الواقعية في إقرار الوثيقة أنه بعد خروج أميركا منتصرة كقوة عظمى وحيدة ساد شعور بأن القوة الأميركية ذاتية الاستدامة ولا يمكن تحديها، وبدأت أميركا «تنحرف» عن مسارها واختبرت «أزمة ثقة» وخسرت ميزاتها في قضايا مفتاحية. فيما «طبّق الآخرون خططاً بعيدة الأمد لتحدي أميركا ودفع أجندات تعارض الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها».
2ــ عالم تنافسي
يجد توماس رأيت أن هذا هو العنوان المركزي في الوثيقة؛ العالم أصبح أكثر تنافسياً على الصعيد الجيوبولتيكي. «ستستجيب الولايات المتحدة للتنافسات السياسية والاقتصادية والعسكرية المتزايدة التي نواجهها حول العالم»، تقول الوثيقة التي تحدد ثلاثة مصادر لهذه التنافسات هي: القوى المعادية الصاعدة (روسيا والصين) التي تنوي تقويض الأمن والرخاء الأميركي، والأنظمة الديكتاتورية المارقة (كوريا الشمالية وإيران) التي تزعزع الاستقرار الإقليمي وتهدد أميركا وحلفائها، والمجموعات ما فوق الوطنية ذات الطبيعة «الجهادية» أو الإجرامية التي تحاول إيذاء الأميركيين.
تنطلق الوثيقة من هذا التوصيف لتدعو إلى مغادرة السياسة الأميركية الممتدة طوال عقدين ماضيين والتي حاولت الانخراط مع هذه القوى واحتوائها داخل النظام الدولي لتغيير طبيعتها وسلوكها، وهو ما تبيّن أنه افتراض خاطىء. من تبعات هذا العالم التنافسي أن الأفضلية العسكرية الأميركية تتراجع أمام هؤلاء الخصوم السيئون، وهو «درس صعب تعلمناه حين تتخلى أميركا عن دور القيادة».
يلاحظ جيمس جيفري أن الرؤية التنظيمية لـ«إستراتيجية الأمن القومي» الجديدة لا تبدو كنظرة عالمية انعزالية أو دولية، إنما كنظرة عالمية توحي بحقبة «القوى العظمى» في القرن التاسع عشر. إن نغمة «اللعبة الصفرية» في الوثيقة «تثير الرعب»، كما لاحظت «الإيكونوميست».
3ــ مصادر التهديد
توضح الإستراتيجية أن الولايات المتحدة تواجه ثلاث مجموعات رئيسية من المنافسين: (1) القوتان التعديليتان روسيا والصين، (2) الدولتان المارقتان إيران وكوريا الشمالية، (3) المنظمات التي تشكّل خطراً عابراً للأوطان، لا سيّما الجماعات «الإرهابية الجهادية»، وكلّها «تنافس بنشاط ضد الولايات المتحدة وحلفائنا وشركائنا».
تتسم لغة الخطاب تجاه الشرق الأوسط بالإقرار بتوازنات القوى الحالية
الإستراتيجية مفعمة بفكرة واحدة: كان العالم لثلاثة عقود في إجازة من صراعات القوى الكبرى؛ وهي تقترح أن هذه العطلة قد انتهت الآن (لاندر وسانغر). «بعد أن كان تنافس القوى غائباً، كظاهرة في القرن الماضي، عاد هذا التنافس للحضور مجدداً» تقول الوثيقة. يقوم عماد الإستراتيجية الجديدة على افتراض أن «السباق نحو القوة ثابت تاريخي لا يتغير».
فيما يخص روسيا والصين كان لافتاً جمعُ الدولتين في خانة واحدة بينما اعتادت الولايات المتحدة أن تعتمد مقاربة مختلفة تجاه كل منهما بهدف جذب طرف إليها لردع وإضعاف الطرف الآخر. تعكس صياغة التهديدين الروسي والصيني نوعاً من المساومة بين البيت الأبيض ومؤسسة الأمن القومي. تعرّض هذا الموقف من روسيا وللصين للنقد الشديد. وبحسب ريان هاس، فإن جمع الصين وروسيا في خانة واحدة غير دقيق ولا يساعد، ولا يخدم المصالح الأميركية لأنه يدفعهما للتقارب، ويزيل ما يفرقهما. هذا التفكير يتجاهل التباينات بين الدولتين، وفي حالة الصين يقوي المتشددين تجاه الولايات المتحدة.
أما إيران، فتتحدث الوثيقة عنها كلاعب يزعزع الاستقرار الإقليمي ويهدد الولايات المتحدة ويدعو إلى تدميرها ويمارس الوحشية ضد شعبه ويتوعد جيرانه، ويدعم الإرهاب، ويملأ هو والقوى المنافسة لأميركا الفراغ الناجم عن انهيار الدول والصراعات الإقليمية المتمادية. ينتقد روجر كوهين الإستراتيجية وما تحويه من تناقضات بسبب الصراع بين ترامب الذي يحاول إرضاء قاعدته الانتخابية وبين الأجهزة الحكومية التي تحاول منع وقوع حرب تدميرية. ويبرز التناقض برأي روجر كوهين في جملة مسائل منها مسألة البرنامج النووي الإيراني حيث تهدد المقاربة العدوانية لترامب الاتفاقية النووية من دون أي بدائل.
في المستوى الثالث، تركز الوثيقة على ما تسمّيه الشبكات الإجرامية العابرة للحدود «والمنظمات الجهادية الإرهابية» التي «تمثل التهديد الإرهابي الأخطر على الأمة». بحسب الوثيقة، حتى بعد هزيمة داعش والقاعدة في سوريا والعراق ستستمر هذه الجماعات في تشكيل تهديدات أمنية لا سيما من خلال عودة المقاتلين إلى أوطانهم. لذا تدعو الإستراتيجية إلى مواجهة هذه الجماعات «الجهادية» والإجرامية في مصادر نشوئها، وتفكيك شبكاتها قبل وصولها إلى الحدود الأميركية. من ضمن خطوات المواجهة التي تضمنتها الإستراتيجية: فضح أكاذيب وأخطاء هذه الجماعات، ونشر سرديات مضادة، وتعزيز الأصوات ذات المصداقية، ومساعدة الحلفاء لمواجهتها بما يمكّنهم من القيام بذلك مستقبلاً من دون الولايات المتحدة، ومهاجمة ملاذات هذه الجماعات لمنعها من الظهور مجدداً، والتعاون مع الشركات الرقمية الخاصة لمنعها من استغلال هذه المنصات، ومساعدة الدول الهشة لمنع استغلال الفوضى فيها من قبل هذه الجماعات.
في هذا السياق ورد ذكر حزب الله بالتحديد مرة واحدة في الإستراتيجية (لم يرد مطلقاً في إستراتيجية أوباما 2015) وذلك من ضمن المجموعات التي تشكّل تهديداً للأراضي الأميركية، وهذا ما يعدّ استكمالاً للحملة الحالية المكثفة لربط حزب الله بتجارة المخدرات وأميركا اللاتينية للجمهور الأميركي باعتباره تهديداً مباشراً للأميركيين وليس لمصالحهم في الشرق الأوسط فقط.
4ــ الاعتراف المشروط بالنظام الاقتصادي الدولي
للدلالة على الأهمية التي أولتها الإستراتيجية للموضوع الاقتصادي يكفي أن نعرف أن مفردة الاقتصاد ذُكرت 151 مرة. تقدم الإستراتيجية محور «تعزيز الازدهار الأميركي» بمقولة لترامب تعكس الأولوية التي يوليها للاقتصاد باعتباره الهدف المركزي الذي يُقرر مستقبل هذه الإدارة: «الأمن الإقتصادي هو الأمن القومي». «إن الاقتصاد القوي والإبداعي يسمح للولايات المتحدة بالمحافظة على قوة عسكرية هي الأعظم في العالم وعلى حماية وطننا»، تنص الإستراتيجية. ينبه زلماي خليل زاد إلى أن الولايات المتحدة لا تستطيع الحفاظ على موقعها القوي في العالم في حال توقف النمو. يشير خطاب الاستراتيجية في ما يخص الاقتصاد إلى أن الولايات المتحدة تتحرك من موقع مأزوم وتريد العودة للريادة، إذ تشير إلى ضرورة «إعادة بناء القوة الاقتصادية واستعادة الثقة بالنموذج الاقتصادي الأميركي».
قدمت الإستراتيجية مقاربة نقدية للنظام الاقتصادي الدولي الليبرالي باعتبار أن الدول غير الليبرالية تستغل هذا النظام عبر تقييد حرية الأسواق والتجارة غير العادلة لتحصل على امتيازات غير مشروعة، فيما كان المراد الأميركي أن تساهم بنية الاقتصاد الدولي الليبرالي في بث القيم الليبرالية داخل المنظومة الدولية وإصلاح المؤسسات الاقتصادية والسياسات في الدول حول العالم. وتعتبر الوثيقة أن التجاوزات التجارية من الدول الأخرى لا تهدد الرخاء الأميركي فقط بل تهدد أيضاً «روح الإبداع والابتكار التي هي مفتاح لعظمتنا الوطنية».
بناء على هذه المقاربة سبق لترامب أن وقّع على قرار الانسحاب من معاهدة الشراكة العابرة للباسيفيك، وهي خطوة واجهت انتقادات حادة داخل التيار السائد في الولايات المتحدة. تفتقر الوثيقة إلى إستراتيجية «جيو-إقتصادية» من خلال تركيزها على «قومية اقتصادية» مهووسة بالتبادل التجاري والاتفاقيات التجارية الثنائية، وهي وضعية لا تقدم الكثير لتحدي الصين في اللعبة «الجيو-إقتصادية» في آسيا. ومن شأن العقلية الصفرية الهادفة لتقليص الخلل التجاري أن تعقّد من العلاقات الاقتصادية مع الحلفاء والشركاء الإقليميين في آسيا، بما يقلص قدرة واشنطن على الهندسة الاقتصادية هناك لصالح الصين.
ترسم الإستراتيجية الخطوط العامة لرؤية اقتصادية لمواجهة التحديات المذكورة حيث: «ستتبع الولايات المتحدة إستراتيجية اقتصادية من شأنها أن تجدد الاقتصاد الداخلي، وتفيد العمال الأميركيين، وتنشط القاعدة الصناعية الأميركية، وتخلق وظائف للطبقة الوسطى، وتشجع الابتكار، وتحفظ الميزة التكنولوجية، وتحمي البيئة، وتحقق السيطرة الطاقوية».
ترفض الإستراتيجية إيمان أوباما بالحتمية العالمية للديمقراطية الليبرالية، إذ «ليس هناك تطوّرٍ تاريخي يضمن أن النظام السياسي والاقتصادي الحر لأميركا سوف يسود تلقائيّاً». وتقدم الوثيقة لهجة تشكيكية بالنظام الدولي الحالي وكفاءته في تأمين مصالح الولايات المتحدة، وهذا أمر مستجد في وثائق الأمن القومي الأميركي. كما يمكن الاستنتاج أن التشدد الأميركي الرئيسي سيكون في الموضوعات الاقتصادية على المستوى الدولي، فيما ستبدي واشنطن بعض المرونة في الموضوعات الأخرى لتحافظ على حد أدنى من دورها داخل النظام الدولي.
5 ــ قضايا متفرقة
الديموقراطية: تخلو الإستراتيجية من فكرة «نشر الديموقراطية» وتتعهد بأن أميركا «لن تفرض قِيمها على الآخرين»، مع التشديد بدلاً من ذلك على الشراكة القائمة على الإرادة الحرة والمصالح المشتركة. تنص الوثيقة على أنه «ليس هناك عمل أعظم لتعزيز الحقوق الفردية من هزيمة الإرهابيين الجهاديين والمجموعات الأخرى التي تثير الكراهية واستخدام العنف لتعزيز إيديولوجياتهم الإسلامية الفوقية». لذا تلاحظ تامارا ويتس أن إدارة بوش جادلت أن تعزيز الحرية والديموقراطية كان وسيلة مركزية لهزيمة إيديولوجية «الإرهاب الجهادي». بينما تقارب إدارة ترامب الموضوع بالعكس، أي أن هزيمة «الإرهاب الجهادي» هو الآلية الأعظم التي يمكن تصورها لتعزيز الحقوق الفردية.
التغير المناخي: تتجاهل الإستراتيجية أن التغير المناخي يمثل تهديداً للأمن القومي كما في إستراتيجية أوباما، فيما يستمر البنتاغون في تصنيفه كتهديد للأمن القومي لا سيما لما ينتجه من موجات لجوء حول العالم. وبدل ذلك يجري التركيز على الحاجة لتحقيق «تفوّق طاقوي».
الأمن السايبري: تزايد اهتمام الإستراتيجية بالأمن السايبري والمِنصّات الرقمية والبيانات كجزء من مسائل الأمن القومي، حيث إن استخدام الأدوات السايبرية سمح للمنافسين من دول وغير دول بإيذاء الولايات المتحدة في مجالات متعددة، بحسب الإستراتجية. وتعتبر الوثيقة أن الأسلحة السايبرية تمثل تهديداً جديداً لأن في إمكانها أن تضرب «من دون العبور فيزيائياً عبر الحدود»، كما أنها تعني أن «تحقيق الردع اليوم أصبح أكثر تعقيداً بكثير مقارنة بحقبة الحرب الباردة».
6ــ الشرق الأوسط
بحسب الإستراتيجية، تهدف الولايات المتحدة إلى أن لا يكون الشرق الأوسط «ملاذاً آمناً أو أرضاً خصبة للإرهابيين الجهاديين، وأن لا تهيمن عليه أي قوة معادية للولايات المتحدة، وأن يبقى مصدراً لاستقرار سوق الطاقة العالمي». فيما تكمن مصادر الأزمة، كما يرد في النص، في المنطقة بالتوسع الإيراني، وانهيار الدولة، والأيديولوجية الجهادية، والركود الإجتماعي الاقتصادي، والعداوات الإقليمية. وفيما يبدو نقداً لمذهبي بوش وأوباما، تشير الإستراتيجية إلى أنه «لا التطلعات للتحول الديموقراطي ولا عدم الانخراط يمكن أن يعزلنا عن أزمات الإقليم».
لا يبدو أن الإدارة الأميركية مقبلة على تغيير مقاربتها في سوريا
تسعى الإستراتيجية إلى استغلال مشهد الحروب الأهلية داخل المنطقة للدفع بالصراع العربي الإسرائيلي إلى الخلف والتقليل من دوره في أزمات المنطقة. فأزمات المنطقة، بحسب الوثيقة، سببها الإرهاب وإيران، فيما الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مجرد عارض لهذه الأزمات.
ترى الوثيقة أن موقف الشركاء في المنطقة لمواجهة الإرهاب يشكل فرصة تعاون أكبر لتحقيق الاستقرار ولإقامة توازن قوى في صالح الولايات المتحدة. وتتحدث الوثيقة عن دعم الإصلاح التدريجي والمساعدة على قيام مجلس تعاون خليجي قوي ومتكامل، وإقامة شراكة إستراتيجية بعيدة الأمد مع العراق كدولة مستقلة، وإيجاد تسوية للحرب السورية تضمن عودة اللاجئين، وتسهيل عملية سلام شاملة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومنع إيران بالتعاون مع الحلفاء من حيازة السلاح النووي، وتشجيع تحديث الاقتصاد لا سيما في السعودية ومصر، وتعزيز فتح الأسواق والمجتمعات. وعسكرياً ستحافظ الولايات المتحدى على التواجد الضروري لحماية أميركا والحلفاء من الهجمات الإرهابية ولضمان توازن قوى في صالح أميركا، إلى جانب التعاون في قضايا مكافحة الإرهاب وأنظمة الدفاع الصاروخي.
تتسم لغة الخطاب تجاه الشرق الأوسط بالإقرار بتوازنات القوى الحالية وبحدود القوة الأميركية وغياب أية نية لتدخل عسكري واسع واستمرار تفويض القضايا للحلفاء. فبحسب الوثيقة «ينبغي أن نكون واقعيين في توقعاتنا للإقليم من دون أن نسمح للتشاؤم أن يشوّش على مصالحنا ورؤيتنا لشرق أوسط حديث».
نشير إلى جملة تأثيرات محتملة لهذه الإستراتيجية على الشرق الأوسط في حال التزمت إدارة ترامب بمضامينها:
1- المقاربة الحذرة للتدخلات العسكرية حول العالم ستستمر في فرض ضغوط وقيود على دور أوسع للولايات المتحدة داخل المنطقة، ما يعني أن المبادرة الأميركية في الشرق الأوسط ستبقى منضبطة إلى حد بعيد ضمن سقف التوازنات القائمة.
2- العلاقة المشروطة والانتهازية مع الحلفاء، ستزيد من إحساس الحلفاء الإقليميين لواشنطن بالحاجة إلى الاستمرار في تطوير أدوار خاصة بهم والانفتاح على مزيد من القوى الدولية. وهذه الانتهازية يمكن أن تعزز من الانقسامات داخل المحور التقليدي مع تعميق التوتر السعودي – الإماراتي/ القطري – التركي. يُلاحظ في هذا السياق غياب أي ذكر لتركيا وقطر في الوثيقة التي تشير للحلفاء في مصر والسعودية.
3- يخلو التقرير من العداء التقليدي ضد «النظام السوري»، ويتحدّث فقط عن عودة اللاجئين إلى وطنهم، ومن دون الإشارة إلى «المعارضة السوريّة». وربما يعكس هذا الحذر غياب التوافق داخل الإدارة الأميركية حول الأزمة السورية في مرحلة ما بعد داعش، أم أنه غموض متعمد كي لا تلزم الإدارة الأميركية نفسها بأية خيارات في ظل القيود المتعددة عليها داخل الميدان السوري بفعل جملة من التناقضات مثل الموقف من الأكراد بما يثير حفيظة تركيا، أو الموقف من النظام بما يثير قلق روسيا.
إذاً، في الشأن السوري لا يبدو أن الإدارة الأميركية مقبلة على تغيير مقاربتها الحالية. وهي مقاربة تريد من خلالها امتلاك حق «فيتو» على أي مسار للتسوية، ومنع الدولة السورية من استعادة بعض المناطق المفتاحية سواء شرق الفرات أو في التنف والمنطقة الجنوبية، وإبقاء النظام السوري ضعيفاً من خلال منع عمليات إعادة إعمار واسعة، وإبقاء تواجد عسكري مباشر كرسالة لإيران وحلفائها أنها قادرة على فرض بعض الخطوط الحمر، مع محاولة الحفاظ على حد أدنى من التفاهمات مع اللاعب الروسي، ومحاولة منع وقوع مواجهة كردية – تركية مفتوحة في الشمال السوري.
4- إن تأكيد الوثيقة على «الحرب الطويلة» المجموعات الم يجب أن تستمر لضربها في «مهدها» لا سيما على المستوى الإيديولوجي وقنوات التمويل والتجنيد. ما يُشير أن الإدارة الأميركية ستستمر في شرعنة تدخلاتها الحالية في المنطقة تحت عنوان رئيسي عنوانه مكافحة الإرهاب «الجهادي»، وهو عنوان يمثّل في ذات الوقت مدخلاً لتعزيز المواجهة مع إيران التي أصبحت أولوية مطلقة من الناحية العملية.
5- السياق العام للوثيقة لا يُبرز الشرق الأوسط باعتباره المصدر الأساسي للتحديات والتهديدات بل منطقة «آسيا – الباسيفيك» حيث الصين وروسيا وكوريا الشمالية. وهذا الأمر مرتبط بأن الولايات المتحدة أصبحت تعتبر أن «المنافسة الإستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، هي حالياً الهاجس الأساسي في الأمن القومي الأميركي»، بحسب «إستراتيجية الدفاع الوطني» الأميركية التي نُشرت مؤخراً. وهذا يؤشر أن مبدأ أوباما بالتحول نحو شرق آسيا لا يزال له آثاره باعتباره لم يكن مجرد «خيار» لإدارة أميركية بل «ضرورة» فرضتها اختلالات توازن القوى في النظام الدولي على إدارة ترامب أيضاً.
6- إن اللهجة الحادة والعدائية تجاه كل من روسيا والصين، قد يكون من شأنها أن تحفز سياسات كلا الدولتين داخل الشرق الأوسط في سبيل تعزيز التوازن بوجه الولايات المتحدة. من غير الممكن أن تقبل الصين أن تحصر نطاق التنافس مع أميركا في شرق آسيا، أي المحيط الحيوي المباشر للصين، بل ستفضّل الصين أن توازن القوة الأميركية في ساحات حيوية لواشنطن يأتي الشرق الأوسط في مقدمتها.
7- بخصوص «إسرائيل»، هي لم ترد إلا ثلاث مرات وضمن فقرة واحدة مرتبطة بالصراع «الفلسطيني – الإسرائيلي» ذكرناها في معرض النص. وبالمقارنة مع إستراتيجية أوباما 2015، تبدو الإستراتيجية الحالية أقل حماسة لإسرائيل، خطابياً على الأقل. ربما تعمّدت إستراتيجية أوباما إبراز هذه التأكيدات لامتصاص التوترات التي كانت تعصف حينها بين إدارته وحكومة نتنياهو.
بالمجمل تسعى الوثيقة في ما يخص الشرق الأوسط إلى إعادة تقديم الصراع في المنطقة على أنه بين محورين، بين «حلفاء وشركاء» الولايات المتحدة بقيادة واشنطن من جهة، وإيران وحلفائها والإرهاب «الجهادي» من ناحية أخرى، في حين كانت مقاربة أوباما أن الصراع هو مجرد حرب مذهبية وصراع قوى إقليمية تقف الولايات المتحدة على هامشه. في العمق، ما تزال إدارة ترامب تلتزم إلى حد بعيد بمبدأ «القيادة من الخلف» الذي أرساه أوباما، إلا أنها تقدم نفسها جزءاً أصيلاً داخل الصراع وليس على هامشه وذلك باعتبار أن التوازنات مع محور المقاومة في مرحلة «ما بعد داعش» توجب مثل هذا الانزياح الأميركي.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/02/19