عصر ما بعد النفط والأجيال الحالية
جميل المحاري
قبل عدة سنوات حين كانت الدول الخليجية تعيش في «بحبوحة» من الرفاهية الاقتصادية، أجريت لقاءً صحافياً مع أحد كبار المستثمرين «ممن يمتلكون المليارات»، وخلال اللقاء سرد لي هذا الملياردير قصة ربما تكون صادمة وغير معقولة أو مقبولة في ذلك الوقت مشيراً إلى أن هذه القصة ليست للنشر، وإنما لمجرد العلم بالشيء.
يقول «كنا في وفد يضم كبار التجار والمستثمرين الخليجيين في زيارة لجمهورية الهند قبل فترة بسيطة، وقد اجتمعنا مع المستثمرين والتجار في الهند، وهم بالطبع يفوقوننا ثروة وإمكانيات مالية بكثير».
ويضيف «جلس التجار الهنود أمامنا وهم يضعون رجلاً فوق أخرى، وراحوا يحدثونا بشيء كثير من التعالي وقال أحدهم وبنبرة فوقية»، إنكم الآن تستجلبون أبناءنا وبناتنا للعمل لديكم كعمالة رخيصة وأحياناً كخدم لديكم... وتذلونهم على الرواتب القليلة التي تتكرمون بها عليهم... ولكن ما هي إلا سنين قليلة حتى ينضب النفط لديكم، ولن تكون لديكم هذه القدرة المالية والاقتصادية، وحينها نحن من سنستقدم أبناءكم للعمل لدينا».
من أجريت اللقاء معه كان يريد أن يؤكد أن الدول الخليجية لم تستعد أو تبني اقتصاداً وتنمية بشرية لفترة ما بعد عصر النفط، في حين أن الدول الأخرى وضعت استراتيجيات وخطط تطور من قدراتها الاقتصادية المحدودة، وتبني مستقبلاً مشرقاً لأجيالها المقبلة.
ومع أن ما قاله المستثمر الهندي بعيد عن أرض الواقع، إذ أن جميع الدول الخليجية تستطيع إن أرادت أن توفر العيش الكريم وفرص العمل لأبنائها، حتى مع انتهاء عصر النفط، وإذ إن المواطنين في الدول الخليجية لا يشكلون إلا نسبة بسيطة من عدد السكان تتراواح بين 20 إلى 50 في المئة، إلا أن الخبراء يرون أن الجيل الحالي سيلاقي صعوبة كبيرة في الحصول على فرص عمل مجزية وذات قيمة إضافية عالية.
وبعكس جيل السبعينات الذي نشأ في ظل طفرة نفطية لم تكن متوقعة مما نتج عنه وثورات مالية ضخمة للدول الخليجية امتدت خيراتها لتصل إلى المواطن البسيط، ما خلق طبقة وسطى شاسعة، في ذلك الوقت الذي لم يكن هنالك منافسون حقيقيون للمواطن، ولم يكن الوافدون يشكلون النسبة العظمى من عدد السكان، فإن الجيل الحالي يعاني من صعوبة قصوى في الحصول على فرصة عمل لائقة أو فتح مشروع صغير، أو حتى العمل في الوظائف الدنيا لتوفير لقمة العيش لأسرته.
ولذلك فإن القدر والسياسات الحكومية، وضعت هذا الجيل ككبش فداء، يتحمل جميع الأخطاء التي مورست من قبل.
ما فشلت فيه الدول الخليجية في السابق من خلال خطط التوطين وإصلاحات سوق العمل والقضاء على العمالة السائبة، سيفرض كأمر واقع على الحكومات والقطاع الخاص، فمن جانب الحكومات الخليجية وهي تمر بمثل هذه الظروف لا يمكنها تحمل الكلفة الاقتصادية من توفير بنى تحتية وكهرباء وماء وخدمات صحية وتعليم ودعم للمواد الاستهلاكية والطاقة، لهذا العدد الكبير من الوافدين دون مقابل، ولذلك فهي الآن في طور فرض ضرائب ورسوم مقابل خدمات، سواء على الوافدين أنفسهم أو على الشركات والمؤسسات التي توظفهم، وعلى أقل تقدير فإن الحكومات الخليجية ستكون مجبرة في وقت لاحق على تقنين استجلاب العمالة الأجنبية وتحديد سقف أعلى على تعدادها في كل دولة.
ومن جانب آخر، فإن القطاع الخاص ونتيجة لارتفاع كلفة العمالة الأجنبية من حيث الرسوم والضرائب وكلف العلاج والخدمات سيطرّ غير مخير إلى إعادة النظر في جدوى استقدام العمالة الأجنبية وخصوصاً أن المليارات التي تحولها هذه العمالة لدولها الأصلية لا يستفيد منه الاقتصاد المحلي.
أما من جانب العمالة الأجنبية الرخيصة الأجر وغير النظامية، فإنها لن تستطيع تحمل مستويات المعيشة المرتفعة ولن تجني كثيراً من المال الذي يمكن إرسال الفائض منه لأسرها، وسترى أن لا طائل من التغرب مادام ما تحصل عليه من رواتب بالكاد يكفي قوت يومها.
بالطبع فإن مثل هذا السيناريو لن يحدث في ليلة وضحاها أو خلال سنة أو اثنتين، وإنما سيمتد لعدد من السنيين تتخلخل فيها أسواق العمل لحين اتضاح الرؤية، وستكون هذه الأجيال من الشباب الداخلين إلى سوق العمل هي الضحية الأولى لهذا التصحيح في علاقات العمل.
الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/01/31