لعبة الابتزاز التركية في وضع صعب...
د. وفيق إبراهيم
الابتزاز التركي يستند إلى صراع روسي أميركي يعمل كل منهما على استمالة الأتراك إليه، في مرحلة حاسمة في الشرق الأوسط.
فالإمبراطورية الأميركية تتراجع على وقع تقدم روسي إيراني سوري يفرض على السياسة التركية أن تمالئه وتعقد معه اتفاقات تحافظ على دور نسبي لها في الإقليم، لكنها لا تتخلى عن «أطلستها التاريخية» فتترقب منها تنازلات تنحو إلى القبول ببعض هواجسها.
ولعل هذه الهواجس هي من الأسباب العميقة لما شاب العلاقة التركية الأميركية من تناقض واضطراب في السنوات الخمس الفائتة، وهي المرحلة التي فتحت روسيا ذراعيها لأردوغان أتاحت له صناعة ادوار في سورية والعراق على أساس العلاقات المستجدة بين موسكو وأنقرة والتي تكرست بتمديد أحد أهم خطوط الغاز في العالم «السيل التركي» الذي ينقل 32 مليار متر مكعب من الغاز الروسي إلى تركيا عبر البحر الأسود ومنها إلى أوروبا، بالإضافة إلى توقيع اتفاقية تسليم تركيا أهم سلاح جوي روسي في العالم أس أس 400. هذا دون نسيان مؤتمرات سوتشي واستانا التي جعلت من تركيا دولة ضامنة للاتفاقات في سورية إلى جانب إيران وروسيا.
ما يحدث اليوم يضع هذا الجانب من العلاقات الحسنة بين أنقرة وموسكو وطهران أمام وضع صعب، ففجأة ومن دون سابق تحضير أو اتفاق مع حليفتيها الضامنتين تعلن تركيا تحضيرها لهجوم يستهدف شمال سورية ومناطقها الشرقية وبررت الأسباب بأنها تريد القضاء على الإرهاب في قسد والوحدات الكردية المنتمين حسب الزعم التركي إلى حزب العمال التركي.
وترافق هذا الإعلام مع موافقة أميركية على تزويد أنقرة بصواريخ باتريوت وإعلان من الرئيس الأميركي ترامب بأنه يتفهم القلق التركي من الخطر الكردي إلا أن وزير دفاعه أكد في تصريح سابق أن كامل المؤسسات الأميركية لا تقبل بأي هجوم على قوات التحالف الدولي شرقي الفرات والشمال.
ومن دون أي مبرر شن الطيران الحربي التركي غارات على مناطق في جبال سنجار كما أطلقت المدفعية التركية رشقات صاروخية باتجاه مواقع كردية شمالي سورية.
للإشارة فإن المناطق الحدودية التركية مع سورية والعراق لم تتعرض منذ 2011 لأي هجوم إرهابي أو غير إرهابي لا من حزب العمال الكردستاني ولا من غيره.
وللتوضيح أيضاً فإن عشرات آلاف الإرهابيين دخلوا إلى سورية من الحدود التركية بإشراف من مخابرات دولية مختلفة على رأسها المخابرات التركية بإجماع كل مصادر المعلومات العالمية الرسمية والخاصة.
هذا يكشف أن ما تشكو منه أنقرة من خطر إرهابي إنما مصدره رعايتها كل التنظيمات الإرهابية المنبثقة من داعش والنصرة وفدرالية الإخوان المسلمين والتركمان في سورية والعراق وبلدان أخرى.
ماذا يجري إذاً؟
هناك مؤشرات على بدايات تنسيق أميركي تركي يريد دوراً كبيراً لأنقرة في سورية إنما من ضمن أدوار الحلف الأطلسي وابتدأ على مهاجمة شرقي الفرات والشمال وهو إعلان سبق إعلان ترامب عن سحب قوات بلاده من هذه المناطق بأيام عدة، فهل هذه مصادفة؟
في أضعف الأحوال يمكن الجزم أن تركيا كانت على علم بقرار الانسحاب الأميركي مسبقاً وأعلنت عن التحضير لهجوم في حركة استباقية بدت في الظاهر منفصلة، لكنها ليست كذلك لدى معاينتها بعمق.
فكيف يمكن لتركيا المجازفة بمهاجمة قوات كردية تحميها قوات أميركية وفرنسية وأطلسية؟
فهل أصيب أردوغان بجنون؟ كما أن الموافقة الأميركية على تزويد الجيش التركي صواريخ باتريوت في هذه المرحلة بالذات، إنما تهدف إلى إرضاء أميركي لتركيا بعد نصف عقد من المشاحنات بين السياستين.
فهل يمكن لتركيا أن تنشر قواتها على مساحة 40 ألف كيلومتر مربع فيها كرد وداعش ودولة سورية مدعومة من الروس والإيرانيين وحزب الله؟ فهذه مناسبة لنمو الحركات الإرهابية وانتقالها من العراق للتمركز في شرق الفرات وفتحها حرباً لا هوادة فيها ضد الجيش التركي، هذا بالإضافة إلى أن الكرد ليسوا لقمة سائغة.
أما الجانب الأهم فهو موقف الدولة السورية وحلفائها الروس والإيرانيين وحزب الله، فهؤلاء قد يقطفون نهائياً مع السياسة التركية، وبإمكان الجيش السوري بما يمتلك من حقوق السيادة على أراضي دولته، أن يشن حرباً لا هوادة فيها مع أي قوات تركية تدخل الشرق والشمال.
وعندها لا يعود بمقدور السياستين الروسية والإيرانية فتح خطوط اتصال تحالفية مع إنقرة لا في إطار إستانة ولا أي مستوى آخر.
لذلك من المرجح أن تختبئ القوات الأميركية في شرق الفرات داخل قوات أطلسية تمولها أوروبا والخليج فهذا ما يريده رجل المصارف والبورصات ترامب، هذا هو الحد الأقصى المقبول الذي لا يلغي الدور الأميركي بل يحجبه خلف قوات صديقة تحمل المشروع الاستعماري نفسه.
بالمقابل يدفع الأميركيون والقسم الأكبر من الأوروبيين نحو إنشاء كانتون في شمالي سورية حتى الحدود التركية وبرعاية الدولة التركية بجيشها ومخابراتها بهدف تعقيد المشهد السوري وحماية وضع اليد الغربية على الشرق بواجهات مختلفة، فهناك الغاز والنفط والمشروع الكردي المتواطئ على حساب وحدة الدولة السورية.
تركيا إلى أين؟
إن استغلال أهميتها الاستراتيجية في الصراع على سورية لن يكون إلا وبالاً عليها، فلا يمكنها الإمساك بالأميركيين باليد اليمنى والروس باليد اليسرى مع إطلاق ابتسامات حارة للجار الإيراني، فهذا لم يعد ينفع مع تضخم الصراع الروسي الأميركي الإيراني الصيني، إلى حدود سحق مشاريع الملتبسين وفي طليعتهم سياسات أردوغان التي تسيء إلى وضعية بلاده أكثر من تحقيق نجاحات في سورية والعراق ولا في أي مكان آخر.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/12/21