هل يُنقِذُ النظام الإيراني «الشرق الأوسط» وقوى أخرى صاعدة...؟
د. وفيق إبراهيم
يدافعُ النظام السياسي في إيران عن جمهوريته أولاً، في وجه أكبر استهداف أميركي غير مسبوق، لكن نجاحه في هذا المشروع يُطلق رذاذاً إقليمياً يُصحّحُ العلاقة بين الأميركيين والدول المستتبعة لهم بدرجات كبيرة، رافعاً من متانة حلفائه وفاتحاً أبواباً كبيرة أمام تغيّرات عالمية.
لذلك تتسم الحرب على إيران بمميّزات إيرانية وعربية وشرق أوسطية وعالمية، وهذا ليس من قبيل المبالغة بقدر ما يعكس قراءات متأنية لمكاتب دراسات عالمية تعتبر أنّ حرب الخليج هي بديل من الحرب العالمية الثالثة «المستحيلة» إنما بأدوات «موضعية» لا تفني الأرض وتحقق الغرض المرجو.
إنّ أسباب الاتجاه الأميركي نحو عقوبات اقتصادية قاتلة تدريجياً لها علاقات بأبحاث أميركية دقيقة، اعتبرت أنّ هذه الحرب ذات أمد طويل إذا كانت تقليدية بالأسلحة الكلاسيكية حتى المتطوّرة منها، وذلك بسبب اتساع مساحة إيران وقدرتها على التحمّل وما تملكه من بنية تسليحية معتبرة.
وهذه وضعية تسمح لتحالفاتها في الإقليم بالتحرك وتفجير مدى كبير يتحوّل بسرعة نزاعاً دولياً مفتوحاً.
هناك أسباب أخرى على تماس مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في 2020 ما يفرض على المرشحين ومنهم الرئيس الأميركي الحالي ترامب تحاشيها قدر الإمكان بسبب نمو مزاجٍ شعبي أميركي جديد رافض للحروب المستنزفة للاقتصاد.
كما أنّ الحرب الطويلة تشجع البلدان ذات الطموحات الاقتصادية والساعية الى ادوار عالمية، بالتموضع فيها، لتحسين مواقعها في مراكز القوى المنتظرة. وهذا حال أوروبا والصين وروسيا، فمن كان يتصوّر أنّ بلداً مثل كوريا الجنوبية يرسل سفينة حربية إلى مياه الخليج للمشاركة بالمشروعين الأميركي والأوروبي، لحماية أمن الملاحة فيها على حدّ زعمها.
هناك إذاً نزوع عالمي للانتماء إلى «أزمة الخليج» بالمشاركة في أمن الملاحة فيها بعد تيقن كلّ الاتجاهات السياسية في العالم بصعوبة الحسم فيها، وذلك تطبيقاً لمفهوم «أنّ كلّ من يحضر السوق يبيع ويشتري».
في المقابل يستفيد البيت الأبيض من قدرته على جذب الأوروبيين والآسيويين وعرب الخليج إلى مشروعه بخنق إيران معتقداً أنه يستدرجهم بالتلويح الوهمي لهم بإمكانية قبوله بأدوار اقتصادية لهم في الشرق الأوسط إلا أنّ الأميركيين يظنون أنهم نجحوا في الفرار من فكرتي الحرب الكلاسيكية الشديدة الكلفة والحرب النووية ذات الآفاق الكونية وذلك في اتجاه حرب اقتصادية لها مفاعيل الحروب التدميرية لا تكلفهم إلا استعمال هيمنة الأحادية الأميركية في العالم بفرض عقوبات لا تستطيع تجاوزها إلا الدول ذات القدرات العالمية وقد لا تنجح، لتمكن الاقتصاد الأميركي من الإمساك بالعالم الاقتصادي بالدولار من جهة ونفوذ الأسواق الأميركية بيعاً وشراءً من جهة ثانية بالاضافة إلى النفوذ الجيوبوليتيكي الأميركي الذي ينشر نحو 800 قاعدة عسكرية في العالم، تؤمن ولاء مئات الدول من دون الحاجة إلى استثمار مباشر.
لذلك تفرز هذه المعطيات ثلاث قراءات: أميركية ترى أنّ أسلوب الخنق الاقتصادي فاعل يؤدّي غرضه وتؤيّدها «إسرائيل» وبلدان الخليج وبلدان أخرى بعيدة عن المسرح المباشر، أما الثانية فمعظم أوروبا التي تعتقد أنّ أزمة الخليج لن تنتج رابحاً من الطرفين الأميركي والإيراني فتستطيع بهذه الحالة الاستفادة من إنهاك إيران للأميركيين فتدخل إلى الشرق الأوسط من بوابة الصمود الإيراني.
بدوريهما تعمل روسيا والصين على إسناد إيران لأنهما متأكدتان من أنّ خروجها السليم من الخنق الأميركي لا يعني إلا اتساع تحالفات إيران في الشرق الأوسط على حساب النفوذ الأميركي، وهذا يتيح لهما حرية حركة واسعة في ميدان استراتيجي اعتادت الدول الكبرى أن تصبح عظمى من خلال السيطرة عليه، أليس هذا حال فرنسا وانجلتره وحالياً الولايات المتحدة الأميركية في المراحل التاريخية الأخيرة؟
ألا تؤكد هذه القراءات على اعتماد دول كثيرة على الصمود الإيراني لتحسين مواقعها في الشرق الأوسط؟ لكنها لا تستطيع التعبير عن نياتها بشكل علني، أو توفير سياسات واضحة تؤدي إليه خشية جذب غضب أميركي عليها قد لا تحمد عقباه؟
ماذا الآن عن إيران الطرف المستهدَف بالخنق؟
ردود فعل إيران تكشف أنّ فريقها الحاكم يعرف لماذا اختار الأميركيون العقوبات القاتلة ضدّها؟
فقسموا أزمة الأميركيين معهم إلى ثلاث نقاط: نووي باليستي – وتحالفات سياسية، مدركين أنّ الذريعة النووية ليست حقيقية لأنهم لا يملكون سلاحاً نووياً وكذلك فإنّ الصواريخ سلاح دفاعي يقصف إمكانات الخصم ولا قدرة احتلالية فيه، أما التحالفات السياسية فتجسّد قوى تجتمع مع الإيرانيين بالسياسة، لكنها عربية وتعبّر عن قسم هام من توجهات شعوب المنطقة الرافضة للحلف الأميركي الخليجي الإسرائيلي.
أين المشكلة إذاً؟ موجودة في إيران نفسها، وعلى مستوى نظامها السياسي حصراً، فاستمراره يؤدي إلى استمرار العداء الإيراني مع تحالفاته الإقليمية للنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
وقد يذهب في مراحل معينة لإنتاج النووي وتطوير الباليستي ما يتيح لإيران التموضع في مواقع بين المستويين الإقليمي والدولي على حساب التمدّد الأميركي.
لذلك تكشف هذه القراءات بوضوح ما ذهب إليه مؤتمر فيينا الأخير لدول الأربع زائد واحد أعضاء الاتفاق النووي الذي انسحب منه الأميركيون في 2018، وهي روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، فهذه الدول لا تريد خنقاً أميركياً لإيران لكنها تخشى اتخاذ تدابير داعمة لتحاشي الغضب الأميركي، فتحاول التحايل بتدابير خفيفة على طريقة «لا تقتل الذئب ولا تفني الغنم».
وتراهن في الوقت نفسه على صمود إيران لمنع الاحتكار الأميركي للعالم، بموازاة تحرك روسي صيني مدعوم أوروبياً هو الوحيد القادر على تزويد إيران بالحدّ المقبول من دعم اقتصادي يُحبط الخطة الأميركية بما يشبه التسوية وليس «الغُلب».
بذلك يمنحُ الصمود الإيراني الشرق الأوسط وروسيا والصين وأوروبا فرصة الاستفادة من الخيبة الأميركية دافعاً نحو إعادة تشكل المراكز الجديدة للقوة التي تدفع نحو شرق أوسط جديد يلتحق بالقرن الواحد والعشرين متخلياً عن دولة القرون أوسطية.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/07/30