المواجهة الشاملة...
حسن خليل
تمرّ منطقتنا، اليوم، ومن دون أدنى شك، في مرحلة خطيرة جداً. التطوّرات المتسارعة، مفتوحة على احتمالات كثيرة؛ فحجم تلك الأحداث وتأثيراتها، ستضع فهم مساراتها في مهب التكهّن المفتوح على غير احتمال، وإذا أضفنا إليه حجم القوى المنخرطة في تلك المواجهة، فإنّنا، ربما سنكون على أبواب تغيير في منطقة الشرق الأوسط، ستساهم نتائجه في إعادة تركيب الوضع الدولي وفق معادلة جديدة، سترسّخ انتهاء أحادية السيطرة الأميركية ــ الأطلسية على العالم لمصلحة آخر متعدّد، وبإضافة لاعبين جدد على مسرحه.
من هنا، فإنّ حجم ما جرى وتأثيراته، سيتعدّى أهمية الأشخاص المستهدفين بالعدوان الأميركي، الواضح والمعلن، إلى نوعية القوى وطبيعتها؛ فقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ومن معهما، لم يكونوا مجرّد قادة قطاعات عسكرية أو شبه عسكرية في هذه الدولة أو تلك، بل هم ينتمون إلى محور سياسي ــ عسكري، في المنطقة. وعليه، فإنّ النظر إلى ما حدث يجب أن يأخذ في الاعتبار طبيعة المواجهة المحتدمة في المنطقة والمرشّحة اليوم إلى مزيد من الاحتدام، ربطاً بالتطوّر الحاصل، والذي تجاوز الخطوط الحمر غير المُعلنة بين الأطراف المعنية، ما قد يضع الشرق الأوسط، المشتعلة ساحاته بمعظمها، في عين متغيرات جدّية سوف تحصل ومن الممكن أن تتخطى الطابع الموضوعي للمكان وكذلك للزمان الذي تجري فيه.
المشروع الإمبريالي، الأميركي ــ الأطلسي في منطقتنا بطبيعته واستهدافاته ــ والذي تمتدّ مفاعيله على مساحة الجغرافيا الممتدّة من المغرب الأطلسي إلى المشرق الأفغاني ــ تقف وراءه قوى عديدة ومتنوعة، من دول ومنظمات واقتصاد ومنظومة مالية وخطط وبرامج وأهداف وأساطيل وعقوبات... ما قد يجعل تداخل المصالح وتشابكها أكثر تعقيداً وأعمق حضوراً. وهو، بهذا المعنى، استكمال لمشروع التسعينيات من القرن الماضي، الذي بدأ مع الانهيار الكبير، المترافق مع اندلاع حروب «نهاية التاريخ» و«صراع الحضارات»، بواسطة «إمبريالية منتصرة» ــ على حدّ زعمها ــ أرادت إعادة تشكيل العالم وفق منظورها الواحد ونموذجها الوحيد، مضيفة إليهما حروباً لمّا تنته بعد، ضدّ «الإرهاب» وضدّ «محاور الشر» وغيرها من التسميات المُغالى فيها إلى حدّ الإسفاف والإجرام بحق دول وأمم، والذي اقترن بسياسات الحصار والعقوبات بهدف تركيع الشعوب، واستلاب قرارها السياسي، وربطها بشروط التنمية الملتبسة وبوصفات صناديق النهب الدولية القائمة على التبعية والارتهان والاستدانة. وبهذا المعنى، فهو يشكل المشروع الأساس والأخطر الواجب مواجهته.
وفي المقابل، فإنّ من يواجه اليوم، هو أيضاً دول وشعوب وحركات مقاومة... أخذت على عاتقها موجبات تلك المواجهة الموروثة، بجزء منها، من امتداد تاريخي للحرب الباردة، والانقسام الدولي الذي كانت عليه. فمن تبقى من إرث تلك الحرب أو من نتائجها، وإن اختلفت أشكاله أو منطلقاته، وجد نفسه اليوم أمام حائط ذلك المشروع المتجدد، فما كان منه، وإن من مواقع متنوعة أو منطلقات مختلفة، إلّا أن يواجه. هو قوس ملوّن بألوان الطيف المشكِل له؛ من مقاومات نتجت من مفاعيل الاحتلال، ومن قوى سياسية متجذّرة في مجتمعاتها، لها تاريخ طويل في النضال ضدّ الانتداب والاحتلال، وأيضاً، بعض من الأنظمة، التي وجدت، في المستجد القادم من الغرب، خطراً على كياناتها وشعوبها وتهديداً لها.
من إيران إلى العراق إلى سوريا فاليمن ففلسطين وغيرها من الدول، هناك قوى ومنظمات جاهرت بتحمّل نصيبها من موجبات الثأر، وحددت طبيعة الرد
إن المحسوم في هذه الحالة، هو أن مستجداً خطيراً طرأ على المشهد الحالي، سيرخي بظلاله على الآتي من الأحداث. ومن المؤكّد أيضاً، أن تاريخ اليوم سيفصل بين مرحلتين، متشابهتين في التكوين لكنهما متناقضتان في النتائج. فالأهداف التي قُصفت ليست بسيطة وليست مباحة؛ هي من ضمن خطوط الاتفاقات الحمراء، تجاوزها هو تجاوز لتلك الخطوط وعلى المعتدي-البادئ أن يدفع الثمن. ثمة معادلة جديدة أخذت في التشكّل؛ الاعتداء طاول شخصيات من محور، أساسه إيران، لكن امتداداته تتوزع شرقاً وغرباً. القضية هنا لا تُقاس بالأعداد أو بتكافؤ الفرص بين الأطراف المعنية فقط، بل بمقاربة كل طرف لطبيعة الحدث ومدلولاته. هناك قوى مؤثرة عديدة، وفي أكثر من بلد، رفعت رايات «الثأر الحمراء» ووضعت الإطار المنطقي للمواجهة. هنا، أصبحوا هم أيضاً من أصحاب الدم، وليس إيران أو العراق فقط، بل تعدى الأمر ذلك لأن يتوزّع الدم على كثيرين، لديهم قدرات وإمكانيات تمتد إلى أبعد من حدود الإقليم.
من إيران إلى العراق إلى سوريا فاليمن ففلسطين وغيرها من الدول، هناك قوى ومنظمات جاهرت بتحمّل نصيبها من موجبات الثأر، وحدّدت طبيعة الرد. لقد كان يقال سابقاً: «العين بالعين والسن بالسن»، وهي شريعة عادلة من حيث الشكل، إلّا أن فهمها قد يخضع لمقاربات تتعدى ذلك إلى المضمون.
فما حدده الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قد يشكل الرد المناسب، والذي يُعطي لكل ذي حق حقه من وجهة نظرهم؛ إذ ليس هناك نظير لمن اغتيلوا إلّا انسحاب الجيش الأميركي من منطقة الشرق الأوسط. هنا القضية تتعدى الشكل إلى فهم الرسالة وبوضوح لا لبس فيه؛ فالمحور الذي كان الجنرال سليماني أحد أبرز قادته، والذي كان العراق أبرز ساحاته، قبل أن يتوسّع ليشمل ما هو أبعد، تبلور، بجانب منه، مع الغزو الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط، والذي بدأ في 2001 مع أفغانستان ومن ثم العراق، والذي كان استكمالاً لقضية فلسطين، التي ناهز عمر قضيتها القرن من الزمن، منذ ذلك الوعد المشؤوم، الذي أطلق بواكير المشروع الإمبريالي في منطقتنا ولا يزال.
هنا المسألة تعدّت الحدث المستجد لتعود إلى أصل المشكلة؛ القضية الأساس هي مواجهة المشروع الأم، واستكمالاً إزالة نتائجه المترتبة على شعوب المنطقة ودولها. فـ«شرق أوسط خالٍ من القوات الأميركية وقواعدها وسياساتها»، يمكنه أن يصبح شعاراً يرتقي إلى مستوى معركة تحرر وطني جدّية وأساسية، تتجاوز الرد الموضعي على الحدث المباشر. ولكي تأخذ هذه المعركة هذه الأبعاد الأوسع، يجب إعادة صوغ قاعدة المواجهة على أساس طرد القواعد العسكرية الغربية كافة من منطقتنا وعلى رأسها القاعدة المتقدّمة – المزمنة، والتي هي هنا الكيان المحتل، وكسر منطق الهيمنة التي تمارسها ذهنية إمبريالية متحكمة، بالإضافة إلى طرح مسألة فكّ التبعية والارتهان للسياسات الغربية التي تنتهجها دول وممالك، وصولاً إلى طرح مسألة وحدة شعوب المنطقة لمواجهة تبعات ذلك المشروع بهدف كسره، وأيضاً في وجه نظمها التابعة التي شكّلت الأدوات المحلية له. أي بمعنى آخر، أن تكون المواجهة شاملة وجذرية، واضحة المنطلقات والأهداف، واستكمالاً النتائج.
إن طرح هذه المقاربة يمكنه أن يشكل أساساً متيناً لاصطفاف أوسع طيف من قوى سياسية وشعبية مؤهّلة بطبيعتها لأن تقود تلك المواجهة وبأفق تحرري، يرتكز إلى المحقق منه ويبني على مشروع وطني جامع، يربط بين تحديات تلك المواجهة واستجابة الشعوب لها. المتضرر اليوم، وبالدرجة الأولى، هو الشعوب، والاستجابة لمعركة رفع المظلومية عن تلك الأكثرية المهمشة، ربما سيساعد في إطلاق الطاقات المتجدّدة والمتوارثة من جيل إلى آخر، والتي في نهاية المطاف، ستحقق آمال سكان هذه المنطقة المترامية الأبعاد وتطلعاتهم في إعادة السيطرة على مقدراتهم وثرواتهم لاستخدامها في معركة التنمية الحقيقية، ولبناء الدول الوطنية القادرة على تحمّل موجبات المواجهة المزدوجة، ضد العدوان الخارجي من جهة، والتصدي لمشاكل شعوبها ومستلزمات تطورها من جهة أخرى، وأيضاً للجم أي تسويات بأهداف فئوية.
إن احتدام المشهد وتعقيداته لا يمكن فصلها أو عزلها عن الوضع الدولي، الآخذ في عملية التشكّل والتبلور وبسرعة مطردة. وعليه، فإن أحادية الخيار المنتصر في الحرب الباردة، بدأت بالتلاشي مترافقةً مع صعود قوى دولية إلى الواجهة بشكل جليّ وواضح؛ الصين توازن وبقوة، روسيا المنخرطة عسكرياً في المنطقة عبّرت وبوضوح، من خلال زيارة رئيسها دمشق، عن تموضعها في ذلك الصراع، والبريكس وشنغهاي وغيرها من التجمعات الاقتصادية، والتي تمتلك القوة والنفوذ والاقتصاد، تحوي أكثر من نصف سكّان العالم. هو عالم جديد، إرهاصات تكوينه ماثلة للعيان، وكل خطوة في هذا الاتجاه ستشكّل خطوة إضافية في صعود البديل الذي سيرسخ كسر الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة الأميركية: هي معركة مفتوحة وستستمر، ربما ستكون خسائرها كبيرة إلّا أن ثمة أثماناً يجب أن تُدفع؛ فموجبات المعركة تتطلب ذلك. فهل حان موعد إنهاء مفاعيل سايكس بيكو لمصلحة شعوبنا وبالتحديد الشعب الفلسطيني؟ سؤال ربما بحاجة إلى قراءة مختلفة بشكل جدّي ومن موقع نقيض قولاً وفعلاً من جميع القوى المعنية بهزيمة هذا المشروع من أجل استعادة فلسطين، كل فلسطين.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/01/15