تصدّعات في جدار النظام السعودي
حميد لشهب
السنوات العِجاف تقترب بخطى حثيثة من قصور آل سعود، ليس فقط بسبب سياسة أسعار النفط أو مخلّفات أزمة كورونا، بل لأسبابٍ أخرى سنأتي على ذِكر البعض منها هنا.
نتابع عن كَثب منذ سنوات سياسة نظام آل سعود ملاحظة واستقراء للوقائع والواقع، لأنه من الأنظمة الأكثر سلبية على البلدان العربية والمسلمة الأخرى، نظراً لما يقترفه من إثمٍ في حق الشعب السعودي والشعوب العربية والمسلمة قاطبة، وبالنظر إلى ائتمان المسلمين أماكنهم المُقدّسة في السعودية لآل سعود وائتمانهم من ربّ العزّة على خيرات عائدات النفط لاستثمارها في تنمية شعبهم وإصلاح حاله المادية والمعنوية. وفي بحر هذا الاهتمام المبدئي، نلاحظ حالياً سرعة وتيرة التغيّرات الجذرية التي حلّت بنظام آل سعود، وهي تغيّرات تُحْدِث شقوقاً عميقة في حيطان هذا النظام، على المستوى الشعبي والثقافي والديني-الأخلاقي والإقتصادي إلخ. فالسنوات العِجاف تقترب بخطى حثيثة من قصور آل سعود، ليس فقط بسبب سياسة أسعار النفط أو مخلّفات أزمة كورونا، بل لأسبابٍ أخرى سنأتي على ذِكر البعض منها هنا.
على صعيد الثروة النفطية، المصدر الرئيس للنظام السعودي، فإن أسعار البرميل استقرّت منذ شهور في معدّل 30 دولاراً للبرميل، ولكي تبقى السعودية واقفة على رجليها اقتصادياً، على سعر برميل النفط أن يصل، طبقاً لصندوق النقد الدولي، إلى حوالى 80 دولاراً، وعليها تقليص حصة خفض نسبة إنتاجها اليومي من النفط، الذي تراجع إلى أدنى مستوياته منذ ربع قرن تقريباً. وقد أعلنت السعودية بأن عجزها المالي قد يصل هذه السنة إلى 112 مليار دولار، وهو شيء لم تعرفه في تاريخها، حتى في فترات الحرب والأزمات الاقتصادية الحادّة.
اعتباراً لهذه الظروف، وللتقليل من حدّة بداية نشفان آبار البترول وانخفاض ثمنه في السوق العالمية، أدخل النظام السعودي نظام "ضريبة القيمة المُضافة" بنسبة 5 في المئة قبل سنتين تقريباً، ورفع من قيمة هذه الضريبة لتصبح اليوم 15 في المئة، أي إثقال كاهل المواطن السعودي بضريبة كان في غنى عنها، لو أن حكّامه كانوا يستحقّون تسميتهم هكذا، ولم يبذّروا ثرواته في أشياء عبثيّة. وسَيَهِّل الشهر المقبل بإلغاء المساعدات المالية لعائلات الجنود والموظّفين السعوديين وتعليق مشاريع البنية التحتية الكُبرى.
يعيش المصدر المالي الثاني لآل سعود، الحج والعمرة، أزمة حقيقية في زمن كورونا، فالعائدات السنوية لهذا المصدر تفوق 20 مليار دولار، ويساهم في خزانة الدولة بما معدّله 20 في المئة. وما يجب معرفته في هذا الإطار هو أن تخطيطات السعودية كانت ترغب في جعل هذا المصدر أكثر أهمية من البترول، لتوسيع عائداته، ومن بين أفكار هذا المخطّط هو بناء فنادق فاخِرة للحجّاج الأثرياء، ممّن يستطيعون دفع 5000 دولار لليلة لجناح مطل على الكعبة.
على الرغم من أن صندوق الثروة السيادية السعودي يحتوي حالياً على أكثر من 300 مليار دولار، فإن الشقوق التي تسبّبت فيها أزمة النظام الحالي ترغمه على اتباع سياسة تقشّفية صارِمة، فصندوق النقد الدولي مثلاً يتوقّع تراجع اقتصاد السعودية بحوالى 2.5 في المئة هذه السنة. وبهذا أصبحت "رؤية 2030" التي عوّل عليها وليّ العهد السعودي الحالي للإستعداد لما بعد مرحلة النفط، قصراً على رمال مُتحرّكة. فالمدينة السياحية والتكنولوجية "البراقة"، التي تُعتَبر القلب النابض لهذه الرؤية، والتي يريد المرء بناءها على ضفة البحر الأحمر في خليج العقبة بميزانية تفوق 500 مليار دولار، أي ضعف ما تحتوي عليه خزينة الدولة السعودية حالياً، هي سراب، إن لم تكن عماء اقتصادياً حقيقياً.
كما أن الرغبة الملحّة لوليّ العهد الحالي من رؤية 2030 والمتمثّلة في جعل السعودية القوة الإقليمية العسكرية والسياسية في المنطقة، قادته إلى إعلان الحرب على جارته اليمن، وهي حرب تطرح علامات استفهام كثيرة عن أسبابها ومُسبّبتاها وأهدافها الحقيقية وشرعيّتها. وتكلّف هذه الحرب لوحدها النظام السعودي أكثر من 50 مليار دولار سنوياً، وليست هناك أية مؤشّرات موضوعية على نهايتها بعد 5 سنوات من اندلاعها واستماتة الشعب اليمني الأبيّ في الدفاع عن أرضه وعرضه وثقافته التليدة. وفي تقرير لجريدة "واشنطن بوست" الأميركية (إبريل/نيسان 2018)، فإن تكلفة طلعات الطائرات الحربية السعودية في الحرب على اليمن تتراوح بين 84 ألف و104 آلاف دولار للطلعة الواحدة.
إضافة إلى هذا فإن الترسانة العسكرية التي اقتنتها السعودية من أميركا ودول أخرى، والتي كان المرء ينتظر بأنها ستساعد لتكون الحرب بمثابة فسحة ونزهة تقوم بها السعودية و"حلفاؤها" (المدفوع لهم مسبقاً للمشاركة في حرب ليست حربهم)، لم تنفع في شيء، بقدر ما تُثقِل كاهل الميزانية السعودية أكثر.
وتحاول السعودية حالياً الإنسلاخ من مسؤوليّتها الأخلاقية والإنسانية اتجاه الشعب اليمني بإعلانها عن تنظيم "مؤتمر دولي افتراضي للدول المانحة" بداية الشهر المقبل، مُحاولة بذلك توريط العديد من الدول الأخرى في جرائمها في اليمن و"إقناعها" للمشاركة في الفاتورة الثقيلة التي تفرضها هذه الحرب عليها. كان بالأحرى على السعودية أن تعلن عن نهاية الحرب والقيام باعتذار رسمي للشعب اليمني وجبر الأضرار التي ألحقتها به لسنوات طوال.
العارف بنظام آل سعود يعرف بأنه مبني على نوع من "شراء الإعتراف به" بشراء ذِمم الناس، وبهذا فإنه يحمل حتفه في يده، عندما لا يستطيع الدفع. وهذا ما نلاحظه اليوم بقلب المعادلة، ذلك أن النظام أصبح يطالب بالأموال من الشعب عوض تقديمها له مقابل عدم حط شرعيته محط تساؤل. والقصة باختصار شديد تتمثل في كون آل سعود فرضوا على نخبة من شعبهم نوعاً من "العقد الاجتماعي" غير موثّق رسمياً، لا يحق بموجبه للمواطن السعودي لا الحلم بالمشاركة في السلطة السياسية ولا انتقادها أو محاولة النيل منها، ويكون على الدولة الإشتغال كالأب المُعَوِّل للشعب والمموّل لحاجاته الضرورية وغير الضرورية. فلمَن حالفه الحظ من السعوديين وكان ينتمي لهذه النخبة المحظوظة لا يكون عليه القلق إن طلب منه أولاده مثلاً الدراسة في الخارج، ذلك أن الدولة تتكلّف بمصاريفهم، كما يمكنهم علاج أنفسهم في مصحّات ومستشفيات غربية من اختيارهم، ويتوصلون بمساعدات سخية لبناء فيلاتهم والحصول على قروض من دون فائدة لقضاء أغراض أخرى. وكما سبقت الإشارة، لم تكن الدولة تطالب المواطن السعودي بدفع أية ضرائب، ليتسنى لها الإشتغال، بل كانت كلمة "ضريبة" في حد ذاتها غريبة كل الغرابة على النخبة السابحة في الأحواض المائية لآل سعود. ويظهر حالياً بأن هذا "العقد" في طريقه للزوال، لأن آل سعود لم يعودوا قادرين على الإلتزام به والإستمرار في تمويله، بل يفرضون على السعوديين ضرائب هم في غنى عن دفعها، إذا أخذنا بعين الإعتبار التبذير الذي اعتاد عليه حكّامها في أمور لا يستفيد منها ولو مواطن سعودي واحد.
من المعلوم أن الشعوب العربية لا تتحرّك إلا إذا وصل المسمار إلى العَظم، وقد وصل هذا المسمار إلى عظم جسد الشعب السعودي، وينتظر المحلّلون انتفاضة حقيقية لهذا الشعب للخروج من الأنفاق التاريخية والأيديولوجية والإقتصادية والثقافية والعقائدية، حيث سجنه حكّامه لعشرات السنين. ومؤشّرات الإنتفاضات الشعبية السعودية واضحة من خلال الإضرابات المتكرّرة في الكثير من الأماكن في البلد (العوامية، المدينة، الطائف)، وفي المناطق الأكثر تعرضاً للفقر والعطالة وضيق الحال: المنطقة الشرقية والحدود الشمالية، حيث تؤكّد إحصائيات رسمية بأن نسبة البطالة في الجوف 22.6% وفي المدينة 21.2%، وفي جازان 17.5% وفي الحائل 16.8%، يعني تفوق بنسب متفاوتة المعدّل العام 15% (هناك من يقول بأن %25 هو الرقم الحقيقي لهذا المعدّل) في بلد قفز عدد سكانه من 7 ملايين نسمة عام 1970 مُقابل حوالى 33 مليون حاليا (منهم حوالى 12 مليون أجنبي يعيشون في السعودية).
إذا كانت الشقوق التي ذكرناها من طبيعة اقتصادية في المقام الأول، فإنها تُتبَع منطقياً بتصدّعات سياسية وعشائرية-قبلية، ستكون بمثابة البنزين الضروري لإشعال فتيل اضطرابات عارمة في السعودية، لا يمكن لنظام آل سعود الذي أشعل فتيل الفتنة في نسيج الأمّة المسلمة وباع القضايا العربية والمسلمة العادلة بأبخس الأثمان لا تجاهلها ولا تجنّبها ولا مقاومتها، لأن المبادئ التي يتأسّس عليها لا تخوّل له هذا، ولأن الأمر لم يعد يتعلق بحركة لأفراد مُنعزلين ومعزولين يمكن قتلهم من دون محاكمة أو سجنهم بظلم، بل بإرادة شعبية استيقظت على بشاعة ما وصلت إليه السعودية، التي كان يُنتظر أن تكون بالفعل رائدة الأمّة المسلمة وزارعة بذور المحبة والإخاء والتضامن بين الشعوب المسلمة وليس العكس.
لصالح موقع الميادين نت
أضيف بتاريخ :2020/05/31