التقارير

#تقرير_خاص: من صنعاء إلى بن غوريون: متى خرج العرب من المعادلة؟

عبدالله القصاب

في زمن تتسارع فيه تحولات الإقليم، جاءت ضربة مطار بن غوريون، في 4 أيار/مايو 2025، لتكسر مسلّمة استراتيجية في العقل الأمني "الإسرائيلي": السماء لم تعد حكرًا على التفوق التكنولوجي، ولا الأرض ملعبًا مغلقًا على سلاح المقاومة. الصاروخ الذي انطلق من اليمن لم يكن مجرد تحدٍ عسكري، بل إعلان رمزي عن تبدل خرائط القوة والنفوذ في المنطقة.

تضرب هذه العملية في عمق الصورة التي روّجتها "إسرائيل" لنفسها كحصن محصّن، محاط بقدرات دفاعية أميركية لا تُخترق. فإذا بالضربة اليمنية تخترق "القبة الحديدية" وطبقات الباتريوت والثاد، وتُحدث رجّة سياسية واقتصادية لا تقل عن صوت الانفجار نفسه. شركات الطيران علّقت رحلاتها، الأسواق تراجعت، و"إسرائيل" بدت أمام العالم أقل أمنًا مما ادّعت.

ما جرى ليس فقط ضربة ناجحة، بل هو تحوّل نوعي في قواعد الاشتباك. اليمن، الذي كان يُقدّم إعلاميًا كدولة مدمّرة غارقة في أزماتها، أصبح لاعبًا إقليميًا يفرض معادلاته على أكثر الجبهات حساسية. إعلان الحصار الجوي على "إسرائيل" من قبل القوات اليمنية لم يكن بروباغندا، بل امتدادًا فعليًا لعقيدة الردع الجديدة.

التوقيت لم يكن عشوائيًا. في اليوم نفسه، كشفت إيران عن صاروخ "قاسم بصير" بقدرات باليستية متطورة، كأنّ المحور يقول إن وحدة الجبهات لا تحتاج بيانات تنسيق، بل أفعالًا على الأرض. المعركة اليوم ليست جغرافية، بل عقائدية ـ بين مشروع يريد تحرير الإرادة، وآخر لا يرى للعرب إلا دور المتفرج أو الهدف.

المفارقة أن الهجوم اليمني جاء في ظل تصعيد أميركي ضد صنعاء، وغارات عنيفة على صعدة والحديدة، وكأن الرسالة واضحة: كل أدوات الردع الأميركية لم تمنع الصاروخ من الوصول. لا الردع الجوي نجح، ولا التهديد السياسي أقنع اليمنيين بالتراجع. وهذا يضعف صورة واشنطن كما يضعف تل أبيب.

في المقابل، كانت العواصم العربية الكبرى غائبة. لا موقف، لا إدانة، لا حتى محاولة تفسير. في مشهد يعيد طرح سؤال مرير: لماذا تنطق الشعوب بما تعجز الأنظمة عن قوله؟ كيف لحكومات أن تلوذ بالصمت، فيما صاروخ يمني يعيد تعريف أمن المنطقة؟ هذا الفراغ الرسمي يزيد من جاذبية قوى المقاومة كبديل واقعي عن المشروع العربي الغائب.

الرسالة الأهم في الضربة اليمنية أن زمن المركز الواحد انتهى. لم تعد "إسرائيل" صاحبة اليد الطولى في تحديد شكل المعركة أو توقيتها. بل إن خصومها باتوا يملكون زمام المبادرة، ويقررون أين يوجّهون الضربات، وكيف يصيغون شروط اللعبة.

حتى أميركا، القوة التي اعتُبرت لعقود ضامنة لأمن "إسرائيل"، بدت مربَكة. تصريحات ترامب التي جمعت بين التهديد واللين مع طهران أظهرت تردده في الانجرار إلى مواجهة إقليمية كبرى. فواشنطن لم تعد قادرة على خوض حروب لا تعرف متى تبدأ ولا كيف تنتهي.

في الداخل "الإسرائيلي"، بدأت تتبلور أزمة ثقة بين الشارع ومؤسسات الأمن. من المسؤول عن هذا الخرق؟ ولماذا أصبحت الأهداف المدنية عرضة لصواريخ تصنع في ورشات محاصَرة؟ إنها لحظة تعرية لمؤسسة طالما ادعت التفوق، فإذا بها تخفق أمام سلاح بدائي بالإمكانات، متقدم بالإرادة.

وهنا، تبرز حقيقة قديمة بثوب جديد: الردع لا يُبنى على التكنولوجيا فقط، بل على الإرادة السياسية، والاستعداد لدفع الكلفة. وما فعله اليمن هو رسالة للإقليم بأن الإرادة ما تزال متوفرة، حتى إن غابت الموارد.

في ضوء هذه المعادلة، قد تكون الضربة تمهيدًا لمفاوضات "تحت النار"، تبدأ من غزة وقد لا تنتهي إلا برسم مشهد إقليمي جديد. مشهد لا تتحكم به "إسرائيل" وحدها، بل تشارك في صياغته قوى جديدة، قد تكون محاصرة، لكنها ليست عاجزة.

الخلاصة أن الضربة اليمنية لم تغيّر فقط موازين القوى، بل أعادت طرح سؤال مقلق للنظام العربي: كيف تحوّلت دول محاصَرة إلى صانعة قرارات إقليمية، فيما تقف أنظمة "مستقرة" على هامش التاريخ؟ هذا السؤال، بكل ثقله، بات يطرق أبواب العواصم... فهل من مجيب؟

أضيف بتاريخ :2025/05/07

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد