الدول العاقلة
محمد عبدالله محمد ..
في الـ 26 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن بلاده «لن تعتذر لموسكو عن إسقاط الطائرة الروسية». وأضاف في لقاء خصَّ به الـ «سي إن إن»، إحدى أهم القنوات الإخبارية العالمية أن «الذين انتهكوا مجالنا الجوي هم مَنْ يجب أن يعتذروا. ببساطة القوات الجوية التركية نفذت واجبها بالرد على الانتهاك وفق قواعد الاشتباك، وأعتقد أن هذا هو جوهر ما حدث».
لكن وفي السابع والعشرين من يونيو/ حزيران 2016، اعتذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشكل مفاجئ عن إسقاط الطائرة العسكرية الروسية «سو 24» على الحدود السورية التركية، وأعرب عن أسفه العميق لما حدث، معزياً في الوقت عينه أسرة الطيار. وبعد أقل من شهر اعتقلت السلطات التركية طيارَيْن تركيَّيْن قالت إنهما مسئولان عن إسقاط تلك الطائرة الروسية.
ثم قرَّر أردوغان أن يزور روسيا بنفسه ليقول أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن «ظروف استئناف محور الصداقة بين موسكو وأنقرة مواتية للغاية»، مشيداً بما أسماه بـ «الموقف النبيل» لبوتين بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا منتصف تموز/ يوليو الماضي، ومعرباً «عن رغبته في زيادة التبادل التجاري بين البلدين ليصل إلى 100 مليار دولار»؛ لتنتهي الأزمة بين البلدين بعد 10 أشهر من توترها.
تركيا أصغر من روسيا. والمصالح أكبر من العواطف. فقرر أردوغان أن يفعل ما يحمي تركيا من بلد أكبر منها ويحفظ مصالح هي أكبر مما ضَمَرَه طيلة أشهر، حتى ولو جَبَّ ما قاله في وقت سابق من كلام حماسي بحق الروس. والحقيقة أن تتبع ما جرى في عملية «الرتق» التي سبقت وحضَّرت لعودة العلاقات بين البلدين لهو أمر جيد، كي نعرف كيف تدير الدول علاقاتها بشكل «عاقل» وبهدوء ومن دون الحاجة إلى الانزلاق في خيارات لا يُعرَف من نتائجها شيء، أمام وضوح أخرى هي أكثر نفعاً.
سنتوسّع في طرح تفاصيل «خاصة» كي نقف على أدوات إدارة الدبلوماسية في إقليم محدَّدة. فما رَشَحَ من أنباء هو أن دولتين ساهمتا في عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. الدولتان هما إيران وكازاخستان. الأولى بدأت مساعيها في شهر مارس/ آذار الماضي، والثانية بدأت ذلك بالتوازي. لكن تم التوافق على أن تقوم الأخيرة بالدور الأساس في عملية الوساطة خلال زيارة الرئيس نور سلطان نزارباييف إلى طهران في أبريل/ نيسان الماضي، لاعتبارات عِدَّة سنأتي على ذكرها.
كازاخستان هي صاحبة أكبر اقتصاد في آسيا الوسطى، حيث يبلغ ناتجها المحلي من إجمالي المنطقة 80 في المئة، ولديها إنتاج نفطي يقارب المليون و700 ألف برميل يومياً. كما أنها تقع على الحافة الجنوبية لروسيا وبوابتها نحو شمال أوزبكستان وتركمانستان وقرغيستان. يضاف إلى ذلك ما تتمتع العلاقة التركية الكازاخستانية من خصوصية سياسية واقتصادية وثقافية حيث يعيش جزء من الكازاخ في تركيا، التي استوطن بدوها في الأزمنة الغابرة في القبجاق.
ومنذ ثلاثة أعوام كان بين أنقرة وأستانا نشاط في التصنيع العسكري عبر شركة «أسيلسان» التركية المعنية بالصناعات العسكرية وشركة «أنغينارينغ» الكازاخستانية، إذ قام ذلك المشروع بتحديث دبابات الجيش الكازاخستاني من طراز تي 72 والحوامات والعربات المصفحة وإنتاج كاميرات الرؤية الليلية والنهارية والمناظير الحرارية. وهو تعاون تم بالأساس برضا من موسكو.
ومثلما ينقل الصحافي التركي مراد يتكن من صحيفة «حرّيت» فإن كازاخستان كلَّفت سفيرها في تركيا بأن يحمل رسالة عاجلة من الرئيس نور سلطان نزارباييف لرجب طيب أردوغان مفادها أن بوتين مستعد لأن يقبل اعتذاراً تركياً، قائلاً إن إرسال ذلك الخطاب يوم 24 يونيو/ حزيران أثناء تواجده في العاصمة الأوزبكية (طشقند) لحضور قمة منظمة شنغهاي والذي سيلتقي فيها بوتين أمر مهم لإزالة التوتر. هذه المهمّة احتاج الأتراك إلى رجل آخر كي يُتِّمها بنجاح! ولكن مَنْ هو؟
إنه رجل أعمال تركي اسمه جاويد تشغلار الذي تربطه علاقات ممتدة تبدأ من روسيا إلى أذربيجان إلى كازاخستان إلى عمق السياسة التركية. وبحسب يتكن فإن تاجر الأقمشة هذا جلس مع أردوغان وبعض المستشارين والدبلوماسيين والمترجمين وصاغوا بياناً كان مفتاحه كلمة معبّرة: الكلمة بالروسية هي: «izvinite». وبعد أن صِيْغ بيان الاعتذار أو الأسف تم إرساله رسمياً إلى طشقند حيث كان نزارباييف ينتظره كي يُقدِّمه إلى بوتين، الذي كان مسكنه يُجاوره خلال قمة شنغهاي.
هذا الخطاب الذي احتاج إلى وساطة إقليمية، ورجال أعمال ومترجمين ودبلوماسيين ومستشارين في العلاقات الدولية، وخط اتصال ساخن ظَلَّ لأشهر بين أستانة وموسكو وأنقرة، ثم إقلاع طائرة رئاسية تركية فجراً وعبورها لأجواء أربع دول وهي جورجيا وأذربيجان وتركمنستان وأوزبكستان وأخذ الإذن منها حتى مع توتر علاقات تركيا بأوزبكستان يعطينا صورة لكيفية إدارة الدول «العاقلة» لخلافاتها السياسية مهما حصل، وعبر كل الأوراق المتاحة، سواء عبر دول أو رجال أعمال.
الأتراك أدركوا أن حماية خاصرتهم الجنوبية من حلم كردي، ولجم تعاظم التطرف الدِّيني على أراضيهم، وإرجاع شحنات الغاز وإنعاش السياحة والصناعة لا يمر إلاّ عبر مراضاة ومصادقة موسكو. والأخيرة وجدت أن تسوية المشكلة السورية وفتح كُوَّة تجارية باتجاه الجنوب تُعوّضها عن عقوبات الأوربيين يمكن أن يتحقق عبر الأتراك. وهكذا حلَّ العقل مع التهوُّر، على الأقل وفق المعطيات الحالية.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/08/13