كم همت روحي نحوكم
قاسم حسين ..
أول ما جاء به قومَه وهو يهبط من غار حراء: «اقرأ»، كلمة السر في بناء كل الحضارات، لا ينهض بدونها شعبٌ ولا تقوم دولة. وهكذا وضع حجر الأساس لواحدة من أكبر حضارات التاريخ، امتدت في القارات الثلاث في العالم القديم.
رسالته لم تكن موضع قبول قومه لأكثر من 13 عاماً، فعارضوه وكذّبوه، وحاصروا وأجاعوا أهل بيته، وعذّبوا أصحابه وتآمروا على قتله، فاضطر إلى الهجرة إلى يثرب مع صاحبه، حيث وجد حاضنةً عريضةً من المؤمنين برسالته، وشهدت أول محاولةٍ عمليةٍ لقيام المدينة الفاضلة على الأرض.
كان يدعو إلى ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان يكره الحروب، ولم يدخلها إلا مضطراً، وإذا دخلها كان يوصي جنوده بعدم الإجهاز على جريح، أو ملاحقة هارب من المعركة، أو التعرّض للنساء والأطفال والشيوخ، وهي مبادئ مازالت الأمم تعاني حتى اليوم، من فقرٍ شديدٍ في الالتزام بها في أزمنة الحروب.
لم تستغرق الحروب والغزوات إلا جزءًا يسيراً من حياته، إذ لم يشارك في حربٍ إلا بعدما جاوز الخمسين، بعد قيام دولته في المدينة. وفي أهم هذه الحروب وأكثرها تأثيراً، لم يبادر إلى الهجوم، وما عدا غزوة بدر (السنة الثانية للهجرة) التي كانت رد فعل على مصادرة أموال المهاجرين، كان المسلمون في موقع الدفاع في أحد (3 هـ)، والخندق (5 هـ) التي سُمّيت بـ«غزوة الأحزاب» لكثرة الأحزاب التي تكالبت على غزو المدينة.
وحتى فتح مكة، المسمى بـ«الفتح الأعظم»، لم يأتِ إلا بعد توقيعه صلح الحديبية (8 هـ)، وبشروط قدّم فيها تنازلات بدت لبعض أصحابه مُذِلّةً، ولكنه أمضاها إيثاراً للأمن وإشاعةً للسلام. وكان المفترض أن تستمر الهدنة عشر سنين، لكن الطرف الباغي الذي يعيش على استمرار حالة الحرب لم يحتملها، فسارع إلى إسقاطها في العام الثاني، فكان أن دخلها (ص) بجيشه، صباح العشرين من رمضان 10 هـ، بعدما أوصى بأعدائه من أهل مكة، خيراً. دخلها الجيش دخولاً رفيقاً، وحين اخترق أحد القادة التعاليم وصاح بما يدخل الرعب في القلوب: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسبى الحرمة»، بعث بمن يأخذ الراية منه، وأمره بأن يرفع النداء الآخر، الذي يعكس رسالته وإنسانيته، ونبله وفروسيته: «اليوم يوم المرحمة، اليوم تُحمى الحرمة». وحين قابل أبا سفيان الذي ناصبه العداء طويلاً، وجيّش الجيوش لقتاله سنيناً، وكان ساعتها في لحظة هزيمةٍ وانكسار، خاطبه بما يهدّيء من روعه: «اليوم يوم المرحمة يا أبا سفيان. اليوم أعزّ الهه قريشاً».
في تاريخه، لا نجد غير معارك كبرى معدودة جداً، وفي السنوات العشر الأخيرة من حياته فقط، بمعدل حربٍ كل عامين أو ثلاثة أعوام، دخل أكثرها مضطراً، إلى جانب غزوات متفرقة كان يشارك فيها أحياناً عشرات الجنود، هنا وهناك. وكان يميل للسلم ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
في حياته الخاصة، كان رفيقاً بأهله، يوصي أتباعه: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»، وكان يؤكد على الرجال كثيراً: «استوصوا بالنساء خيراً»، وكان يقول: «رفقاً بالقوارير»، وظلّ يوصي بهن حتى آخر خطبة عامة ألقاها في أكبر حشد جماهيري، في خطبة الوداع: «اتقوا الله في النساء».
كان وفياً لزوجته الأولى، خديجة بنت خويلد (رض)، وظل يذكرها إلى آخر حياته بإكبار وإجلال، «فقد آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني حين كذبني الناس». وكان لا يمل من الثناء عليها والاستغفار لها، عرفاناً بتضحيتها بثروتها ورفاهها لصالح الرسالة الجديدة. ورغم تعدّد زواجاته بعد رحيلها، إلا أنه لم يُرزق بعد النبوة إلا بطفلين، سرعان ما فارقا الحياة. وكان محباً لحفيديه، يلاعبهما ويحملهما على منكبيه، ويصطحبهما إلى المسجد، ويطيل السجود إذا امتطى أحدهما ظهره الشريف.
في يوم مولده الأغر، يطيب لنا أن نكتب مستذكرين، متفيئين ظلاله، مردّدين ما قاله الشاعر المجيد:
كم همت روحيَ نحوكُمُ... فبك الأرواحُ تنسجمُ
من مكة ضاء الكونُ هدى... وانجابت بالنورِ الظُلًمُ
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/12/16