عاصفة الظلام في عاصمة النور
طراد بن سعيد العمري
الهجمات الإرهابية التي ضربت باريس يوم الجمعة ١٣ نوڤمبر الماضي، كانت عاصفة من الظلام حاولت إطفاء أضواء الحرية والثقافة في باريس فإنعكس نور الثقافة والقيم الفرنسية مضيئاً معالم كثيرة في مختلف مدن العالم. أثبت الشعب الفرنسي أنه قوي وقادر على صنع الحياة ومتحدياً ظلام الفكر الأسود وحاملاً مشعل الحرية كما كان منذ الثورة الفرنسية التي غيّرت العالم. التحدي الذي يواجه فرنسا وشعبها وإرثها العظيم من قيم التسامح والثقافة والحريّة يكمن في سؤال واحد: هل تكون أحداث الجمعة الأسود في باريس نهاية أم بداية الحقبة الفرنسية؟
حفنة مضطربة بأقنعتها السوداء هاجمت التفوق الإنساني في أبهى صوره في الملعب والمقهى والمسرح مما أثار الذعر في أفئدة الحضور وقتل وجرح المئات من المدنيين العزل الأمنين، كما أثبت الفكر الظلامي أنه يستهدف الثقافة والتسامح والحرية بإسم الدين الإسلامي الذي يحض على الثقافة والتسامح والحريّة. ولهذا السبب تعاطفت شعوب العالم مع الشعب الفرنسي الذي نشر عبر فلاسفته العظام مختلف المعارف والعلوم والنظريات التي ظلت حية حتى يومنا هذا. القوة الناعمة للشعب الفرنسي أكبر وأقوى وأعظم تأثيراً من القوة الصلبة للحكومة الفرنسية.
من حق فرنسا وحكومتها أن تنتقم لنفسها وأمنها وأمان شعبها ومصالحها، لكن التحدي القائم اليوم يفرض الأسئلة “المعضلة”: هل تقع باريس النور في خيوط الفكر الظلامي والضلالي لداعش والإرهاب؟ هل تتحول فرنسا بحكم الذهول والصدمة إلى التنازل عن إرثها الحضاري في التسامح والثقافة والحريّة؟ هل يهزم شذاذ الأفاق مثل الظواهري والبغدادي وغيرهم، الذين ينتسبون للمنظمات الإرهابية عظماء الفلسفة مثل: ديكارت وڤولتير وروسو وسارتر وبوڤوار وشتراوس وفوكو؟ خط رد الفعل الفرنسي يكاد أن يكون واضحاً بدءاً بحالة الطواريء، مروراً بتمديد الحالة ومحاولة تعديل الدستور، وإنتهاء، ربما، بعزل فرنسا عن مكونات ثقافتها وتسامحها وحرية شعبها.
من دون الدخول في الغموض الذي يلف نشأة داعش ونشاطها وأهدافها ومن يقف خلفها، نجزم بأن ردة الفعل للحكومة الفرنسية كانت متوقعة لدى الأشرار، فأحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تمحى من ذاكرة الإرهابيين. هناك من يرى تشابهاً في الفعل وردة الفعل بين حادثتي ١١ سبتمبر في أمريكا، وحادثة ١٣ نوڤمبر في فرنسا. القاعدة التي نفذت هجمات ١١ سبتمبر هي أم داعش التي نفذت هجمات ١٣ نوڤمبر؛ الحادثتين تضمنت هجمات متعددة ومتزامنة؛ التهديد الكيماوي والتخويف منه أعقب الحادثتين؛ ظهور جوازات سفر للمنفذين او المتهمين بالتنفيذ في مواقع الجريمة؛ إجراءات الطوارئ وتعديل القوانين وتحجيم الحريات الذي أعقب الحادثتين؛ الغموض الذي إلتصق بالحادثتين حول الضحايا والمتهمين وهوياتهم؛ اللغط حول المعرفة المسبقة أو أسماء المشتبه بهم في قوائم الإرهاب قبل الحادثتين؛ وأخيراً، الانطلاق في ملاحقة الإرهابيين خارج الحدود.
الحكومة الفرنسية مطالبة بكشف المزيد من ملابسات أحداث الـ ١٣ من نوڤمبر للرأي العام لتخفيف اللغط والتشكيك في نوايا الحكومة الفرنسية. أما الشعب الفرنسي العظيم فأمامه أعظم التحديات للحفاظ على إرثه المعرفي وقيمه الجميلة والنبيلة وعدم تمكين الظلام بأن يغلب النور، وعدم السماح للأشرار والمفسدين بأن يهزموا مشاعل الثقافة والتسامح والحريّة التي عرفت بها فرنسا وناضل الشعب الفرنسي من أجلها كثيراً وطويلاً. فموجة الإرهاب التي تنتاب العالم اليوم لها أسباب كثيرة منها: عجز النظام الدولي العجوز؛ وقِصر مفهوم دولة/ الأمة عن تطور المجتمع المحلي والدولي؛ وضعف مفهوم الدولة في مناطق خارج أوروبا؛ وسوء إدارة الدول والمجتمعات في مناطق من العالم؛ وعدم فهم مزايا الدولة المدنية العلمانية؛ والخلط بين محاربة الإرهاب ومحاربة الإرهابيين.
بعض الاتهامات التي واجهتها الحكومة الفرنسية بالتقصير الأمني بعيد الحادثة الإرهابية هي اتهامات غير دقيقة وهي من جدل الفراغ أو فراغ الجدل بين الحكومة والمعارضة، وتحدث في كافة الدول الديموقراطية. المثير، أنه من السهل على صقور السياسة استغلال حادثة ١٣ نوڤمبر لتحويل فرنسا إلى دولة بوليسية في الداخل والخارج والمضي قدماً في تتبع خطوات الإدارات الأمريكية المتعاقبة في الانتشار العسكري حول العالم بحجة داعش والإرهاب. ثم ماذا؟ هل تستطيع الأساطيل الحربية والطائرات والصواريخ من القضاء على الفكر الأسود؟ بالتأكيد لا، إذ سيتحول العالم حينها إلى فوضى تحقق أهم أهداف الظلاميين وأتباع الفكر الأسود، وعندها فقط سيعم الإرهاب والإرهاب المضاد ثقافة العالم، وتخسر فرنسا وشعبها أفضل ما سعوا إلى نشره عبر قرون.
داعش والقاعدة وأخواتها من الجماعات والمنظمات الإرهابية التي ولدت من رحم الفكر المتطرف، بدأته جماعة الأخوان المسلمين في بدايات القرن العشرين بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية وخلافتها المزعومة حينذاك، ولذا نجد أن تركيا بالرغم من علمانيتها اليوم تحلم بإعادة أمجاد الخلافة بطرق شتى ولو على استحياء. محاولة تركيا زعزعة الأمن والنظام في سوريا؛ وإيواء المعارضة السورية في المدن التركية؛ وتسهيل مرور المقاتلين الأجانب للانضمام إلى المجموعات الإرهابية؛ وغض الطرف عن ممارسات وتجارة داعش عبر الحدود التركية؛ ودفع المشردين والمهاجرين إلى أوروبا عبر تركيا أضر بسلامة وأمن الدول الأوروبية وساعد في انتشار داعش والإرهاب العابر للحدود، ولذا وجب على فرنسا وأوروبا والعالم وقف المكر السياسي التركي تجاه اللعب بورقة الإرهاب.
أخيراً، الإرهاب يقوم على الفكر، ومحاربة الإرهابيين فقط لن تفلح أو تنجح في القضاء على الإرهاب، وفي ظننا أن خير من يمكنه محاربة الإرهاب المستند على الفكر الظلامي هي فرنسا بقوتها الناعمة وليس الصلبة، فقيم التسامح والثقافة والحريّة التي تمتلكها فرنسا عبر قرون هي السلاح الفتاك الذي يمكن لفرنسا المحاججة به في العالم ومؤسساته الدولية لإلحاق الهزيمة بالإرهاب، وهذا الأمر عينه الذي لم تتمكن العقلية الأمريكية من استيعابه.
ختاماً، بعد ١١ سبتمبر أصاب الولايات المتحدة الأفول، فهل يكون ١٣ نوڤمبر تاريخ لمعان نجم فرنسا أم أفوله؟
صحيفة أنحاء
أضيف بتاريخ :2015/11/26