علي القادري: تحطيم الوطن العربي [2]
عامر محسن ..
في مرحلة الستينيات، حظيت الأنظمة العسكرية العربية، وسياساتها الاشتراكية وإصلاحاتها الزراعية وعداؤها لإسرائيل والهيمنة، بدعمٍ من قطاعاتٍ واسعة من الشعب (وهو جزءٌ من التاريخ الذي تطمسه سرديّات المراجعة التي خرجت في مرحلة الهزيمة، وبعضها يحاول اليوم أن يشرح لك أنّ الملك فاروق أو نوري السّعيد كان، في أيامه، يمثّل الخيار الشعبي).
ولكن، بصرف النظر عن تأييد كثير من النّاس لهذه الأنظمة، أو أنّ السياسات الاشتراكية قد أفادت وخدمت الفقراء العرب، إلّا أنّ هذه الطبقات العاملة لم تُشرك فعلياً في الحكم، ولم يتمّ تنظيمها ضمن مؤسسات وميليشيات ونقابات تعطيها صوتاً وقوّةً في المجتمع. هذا الإصلاح «من فوق»، يقول القادري، هو ما سمح بالإنقلاب «من فوق» أيضاً، وبسهولةٍ شديدة، حين أعلنت النّخب الحاكمة هزيمتها الإيديولوجية، وتصالحت مع الهيمنة الغربية، وتخلّت عن الفقراء ومصالحهم وتحوّلت إلى «طبقة تجارية» (بعض بقايا البرجوازية الاشتراكية من «الطبقة الوسيطة» التي ارتقت في ظلّ النظام الاشتراكي ونظّرت له وساهمت في إدارته ــ وبينهم مثقفون وعسكريون وموظّفون كبار ــ حاولوا مقاومة إصلاحات السادات في مصر ومعاهدة السّلام، وكانوا من أوّل الفئات التي تمّ قمعها وزجها في السجون).
الحرب كنشاط منتج
حالة الإفقار والتفتيت وانعدام العدالة التي تكرّست في العقود الماضية في منطقتنا تجد تعبيرها السياسي المباشر حالياً في حدثٍ مثل حرب اليمن، حيث تقوم أثرى دول العالم دخلاً (الإمارات وقطر والسعودية) بضرب أحد أفقر البلاد في العالم وحصاره وتجويعه بدعمٍ غربيّ مباشر. وأغلب حكومات المنطقة، من مصر إلى المغرب إلى الأردن والسودان، تؤيّد الحرب علناً وتشارك فيها، من دون أن تخشى أي ردّة فعلٍ من شعوبها. لهذا السّبب أيضاً، أصبحت الحكومات العربية قادرة على الانتظام، جهاراً، في أحلافٍ إقليمية مع أميركا وإسرائيل وهي واثقة من أنّ مزيجاً من تكريس ثقافة الهزيمة بين النخب، وضعف الطبقات العاملة وعجزها، سيسمح لها بقيادة مجتمعاتها في سياساتٍ تؤدّي إلى إضعافها واستعمارها وتدميرها. فكرة أنّك لو وضعت الإنسان في سياقٍ معيّن وأمام محفّزات معيّنة، فأنت قادرٌ على دفعه للعمل ــ حرفيّاً ــ ضدّ مصلحته، هي جزءٌ أساسيّ من حجّة علي القادري. ما نراه اليوم في سوريا وليبيا والعراق هو دليلٌ على ذلك، والنّخب الحاكمة، حين أقرّت السياسات النيوليبرالية، كانت تسير في طريقٍ لن يؤدّي إلّا إلى تجويف المجتمع والاقتصاد، وتخريب البلاد الواقعة تحت حكمها حتّى تصل إلى مرحلة الانهيار.
المشكلة هي أنّ «التّخريب» في منطقتنا من العالم ليس ضدّ المصلحة الامبرياليّة، بل على العكس تماماً. هذا الإقليم المفقر، الذي لا يملك دخلاً عالياً وقدرات إنتاجيّة، ولا يريد منه الغرب إلّا النّفط، هو أكثر «نفعاً» لرأس المال العالمي كميدان حربٍ وغزوات، ترفع الإنفاق العسكري ومداخيل شركات السّلاح، وتضع الجيش الأميركي في قلب منطقةٍ حيويّة. حتّى النّفط، يكتب القادري، لا تأتي أهمّيته من قيمته المالية المباشرة أو من حصول أميركا على نفطٍ «أرخص»، بل باعتباره قطعةً من منظومة الهيمنة، تضمن سلطةً أميركية على إقتصادات أوروبا وآسيا، وتساهم في تكريس الدولار عملةً عالمية (من أهمّ الأمثولات التي تقدّمها مدرسة التبعيّة لنا هي دحض حجّة النخبوي العربي الذي يدعو لأن نصير «كوريا واليابان»، فالنظرية تشرح لماذا لا يمكن أن نصبح جميعاً «كوريا واليابان»، وأنّ أميركا لا تسعى للسيطرة على العالم من أجل تنمية دول الأطراف وتحويلها إلى قوى صناعية، حتّى تجلس هي على الهامش). على عكس ما ادّعى المبرّرون لغزو العراق، فإنّ أميركا ــ حتّى في حالة الاحتلال المباشر و«صنع الدول» ــ لم تستعمر العراق حتّى تجعل منه دولةً مستقرّة ومزدهرة، بل إنّ مصلحتها هي في استمرار حالة الحرب والعنف، والدويلات المتناحرة، وهي قد صمّمت نظاماً يخدم هذا الهدف. الحال نفسه في سوريا، حيث يترواح الهدف الأميركي من الحرب ــ على حدّ قول القادري ــ بين تقسيم البلد وتحويله إلى ميدان معركةٍ مستمرّة (وهو السيناريو الأفضل)، أو الإبقاء على دولةٍ إسميّة بلا قدرةٍ ولا سيادة (ويضيف الكاتب أنّ من تصوّر، في أيّ لحظةٍ خلال هذه الحرب، أنّ الدمار الفائق والمال الخليجي والإمارات المسلّحة والمخابرات الأجنبيّة ستوصل إلى «ديمقراطية ثورية» من أيّ نوع في سوريا، يعيش في عالم الخيال). من هنا أيضاً، يجزم المؤلّف، لا تخاف أميركا من «داعش»، لا لأنها عاجزة عن إنتاج مشروعٍ حديثٍ يصارع الهيمنة، بل لأنّها ضمانٌ لاستمرار العنف والنزاعات في المنطقة، والتدخلات الأميركية تحت شعار مكافحة الإرهاب.
سوريا و«الحرب القادمة»
في الستينيات، بنى البعث في سوريا أكثر النظم العربية راديكاليّة. تمّ تأميم أغلب القطاعات الإستراتيجية والمؤسسات الماليّة، أجري إصلاح زراعيّ موسّع، وتولّت الدّولة أمر الاستثمار في الصّناعة والتّحديث. في الوقت ذاته، تمّ حصر الاستيراد والتصدير بشكلٍ كامل (على الطريقة السوفياتية) في يد المؤسسات العامّة للحفاظ على قيمة العملة ومستوى المعيشة في الداخل. منذ أواخر السبعينيات، يشرح القادري، تمّ تفكيك هذا النظام تدريجيّاً، في الاقتصاد وفي السياسة: بعد خروج مصر من المواجهة مع إسرائيل، وتراجع المعسكر السوفياتي، اختطّ النظام السوري طريقاً يقوم على تحصيل الريوع «الجيوسياسية» من الأطراف الدوليّة والإقليمية المختلفة وتجنّب الحرب (عبر عملية «حساب مخاطر» معقّدة، يكتب القادري، وسوريا عملياً ــ منذ أواخر الثمانينات ــ مكشوفةٌ عسكرياً أمام أي هجومٍ غربيّ أو إسرائيلي). في الوقت نفسه، انسحبت الدّولة تدريجياً من المجتمع والمشروع التنموي، وتحالفت مع النخبة التجارية المدينية على حساب العمّال والمزارعين والقطاع العام، وابتدأت مسيرة تحرير العملة والاقتصاد. أوّل ضربةٍ على هذه الجبهة جاءت في أواسط الثمانينيات، يكتب القادري، حين بدأت أموال البرجوازيين السوريين بالخروج من البلد، في رزمٍ وصناديق وغالباً بالتعاون مع ضبّاط ومسؤولين في الدولة، ليتمّ تحويلها إلى دولارات في البلاد المجاورة (وبخاصّة لبنان). هذه الطريقة المواربة لتحويل العملة أدّت إلى فائضٍ في عرض الليرة السورية، فبدأ الصرّافون بطلب أسعارٍ أعلى للتحويل، فاضطرّ المصرف المركزي السوري إلى التدخّل وشراء العملة للحفاظ على قيمتها. بمعنى آخر، لم يحدث أي تغييرٍ في الاستهلاك أو حاجات الاستيراد أو الطّلب الداخلي في سوريا، ولم يكن هناك أي سببٍ للضغط على العملة، ولكنّ العملة الوطنية اهتزّت، وحصل تضخّم دفع ثمنه المواطنون، ليذهب الفارق أرباحاً لأصحاب الأموال وشركائهم (لتوضيح حجم الأموال التي تمّ استخراجها وتهريبها من البلد في تلك المرحلة، يذكّر القادري بأنّ رفعت الأسد، حين خرج من سوريا، كان معه ما يكفي من أموالٍ لشراء محطّات فضائية ومصالح تجارية في أوروبا). مع توقّف الاستثمار في القطاع العام والصناعة، أدخل التضخّم في أواسط الثمانينيات سوريا في أزمة اقتصادية، يقول القادري، لم تخرج منها أبداً ــ النموّ ظلّ قريباً إلى الصّفر حتى عام 2002، والنموّ المسجّل بعد ذلك يعود أساساً إلى مدخول النفط، الذي لم يتمّ استثماره هو الآخر لتعزيز التنمية وتوسيع القاعدة الإنتاجية، بل استخدم لدعم العملة واحتياطي المصرف المركزي، وبالتالي، مصالح التجار ورساميلهم. في جدولٍ يرد في الكتاب، يمكنك بسهولةٍ أن تلاحظ كيف ظلّت أسعار المواد الأساسية في سوريا ثابتةً تقريباً، أو ترتفع ببطء، منذ أوائل الستينيات وحتى الثمانينيات، ثمّ تبدأ الأسعار بالارتفاع عمودياً. بحلول عام 2007، حين تمّت إزالة آخر الحواجز الجمركية (وكانت العملة أصبحت قابلة للتحويل، وقد تمّ توحيد سعرها، وإنشاء مصارف خاصّة) وصل التضخّم إلى نسبةٍ تقارب العشرة في المئة باستمرار، وصولاً إلى سنة 2011.
الخيانة الكبرى، يقول القادري، هي أنّ الطبقات العاملة والزراعية في سوريا، التي احتملت التقشّف والحصار والحرب من أجل أهدافٍ وطنية وقوميّة، هي التي تمّ التخلّي عنها ورميها إلى الفقر. بعد أن حوّل التضخّم راتب الموظّف في القطاع العام إلى «راتب فقر»، وهبط الإنتاج الصناعي إلى أقل من نصف قيمته في السبعينيات، أصبحت هناك ندرة في «الوظائف الجيّدة» في سوريا، مقابل ظهور الأثرياء الجدد والثروات التّجارية وانتشار الاستيراد (رأس المال الصناعي، يقول القادري، يصنع القيمة عبر تحويل المادّة، فيما التاجر والمصرف يربحان من التبادل، بمعنى آخر، فإنّ هذه الثروات ما هي إلّا ضريبة تستخرج من الشعب واستهلاكه تحت مسمّى «الأرباح»). المشكلة الكبرى ليست هنا؛ المشكلة هي أنّ سوريا كانت في مرحلة تحتاج فيها إلى التحضير للحرب وتوقّعها على الدّوام. يقتبس القادري غرامشي حين يقول إنّ من تهدّده الحرب هو أكثر من يحتاج إلى أن تخترق الدّولة مفاصل المجتمع وأن تنظّم كلّ شيء فيه، وفي سوريا حصل العكس تماماً. أنت لا يمكن أن تواجه غزواً غربياً أو حرباً إسرائيلية إلّا أنت كنت تملك طبقةً عاملة مسلّحة ومنظّمة ومكتفية، ومستعدّةٌ للقتال (حين قاتل الريفيون السوريّون إلى جانب البعث، في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وكانوا مستعدّين لخوض حربٍ أهلية من أجله، لم يكن ذلك لأسباب إيديولوجية أو وطنيّة فحسب، بل لأنّ النّظام كان يعني لهم شيئاً ماديّاً يستحقّ القتال لأجله: يوزّع عليهم الأراضي، ويرفع من دخلهم، ويشعرهم بأن الدولة لهم، ويضرب العائلات الإقطاعية التي استغلّتهم طويلاً...).
في المنطقة العربية، يجب أن تفهم أن «الحرب القادمة» هي آتية دوماً؛ بلدٌ كالعراق قضى أغلب تاريخه الحديث في حرب، فهل من المنطقي أن تبني سياساتك على أساس عهدٍ قادم من السّلام، كأنك في أوروبا؟ هذا ليس إلّا شكلاً من الانتحار. الحكم السّوري تحالف مع المدينيين والتجار (الذين، بالمناسبة، لا يحملون السلاح عموماً ولا يقاتلون، وإن أيّدوك وأثروا بسببك) واعتقد أنه بالإمكان تجاهل الطبقات الشعبية وإخراجها من السياسة ــ في وقتٍ يقوم فيه التمويل الوهابي بملء أيّ فراغٍ أيديولوجي ــ فيما الحرب تقترب (أمّا عن الموقف السياسي من الحرب الدائرة اليوم، فتعليل القادري بسيط، رغم عدائه الواضح للنظام السوري وتقييمه شديد السلبية له: إن شئت أن تعتمد موقفاً أخلاقياً معيارياً بالمعنى الكانطي، يكتب القادري، فإنّ هذه حربٌ شرسة وبشعة والجميع يرتكب جرائم، فالأفضل ساعتها أن تأخذ خطوةً إلى الوراء وأن تعارض النزاع بأكمله ولا تقف مع طرف؛ أمّا إن شئت تحديد المسؤول عن تسعير الحرب وتحويل سوريا إلى أرض محروقة، فهو التدخّل الأميركي والخليجي وما يعتبره القادري «غزواً جهادياً» لسوريا، على غرار حرب أفغانستان).
مع علي القادري، يجب أن نتذكّر أنّنا أمام نصٍّ ماركسيّ بنيويّ كلاسيكيّ: الفاعل الأساسي في التّاريخ هو رأس المال، وإرادة الأفراد وأفعالهم ثانويّةٌ إلى حدّ بعيد. هو يعتبر أنّ مسار النيوليبرالية والاستسلام، الذي وصّفناه، لم يكن «اختيارياً»، وأنّ عوامل بنيويّة (من الهزائم العسكرية إلى ضعف المنظومة الاشتراكية) كانت ستفرض «الانعطافة النيوليبرالية» بصرفغض النّظر عن هويّة الحاكم. كان من المستحيل منطقياً أن يخرج جناحٌ من النّخب في الثمانينيات ليطالب بمزيدٍ من الاشتراكية في السياق الأيديولوجي والثقافي لذلك الزمن، ولو حصلت تلك التجربة، لكان من المستحيل أن تنجح. أغلب الأحداث التي شكّلت التاريخ السّوري الحديث، من الريع النفطي إلى كامب دايفيد إلى سقوط الاتحاد السوفياتي، كانت خارجيّة المنشأ وليس في يد النّظام تجاوزها أو تغييرها. حتّى لو قام الحكم في سوريا منذ الثمانينيات بإصلاحاتٍ أكثر «عدالة» وأقلّ فساداً، وتمّ توزيع جزء أكبر من الدّخل على العمّال، يجزم القادري، فإنّ النتيجة النهائية لم تكن ستختلف جذرياً، وأميركا كانت ستوصل الحرب إلى أبواب دمشق ما أن تلوح الفرصة.
هذه البنيوية «الجبرية» يطبّقها القادري أيضاً، بتشاؤم، على المستقبل، فهو يجد أن الطبقة العاملة العربية اليوم هي ضعيفة، مشتّتة، فقيرة وغير مسلّحة، ولن تتمكّن من صنع أو قيادة حركة تغييرٍ في هذه الظروف. أنت لن تتمكن من مواجهة أميركا أو «حفر قبرها» في بلادك، فهي أقوى منك بكثير، وحتى لو تلقّت هزيمةً موضعية، فالإمبراطورية لديها موارد كثيرة وهي ستعيد تشكيل نفوذها وتضربك في المستقبل. حتّى لو حقّقت استقلالك، وأنت بلدٌ عربيّ صغيرٌ فقير، فإنّك لن تتمكن من بناء اقتصاد ناجحٍ في رقعتك الصغيرة من دون دمج مواردك مع محيطك. الأمل الوحيد، يحاجج القادري، هو في حصول تغييرات بنيوية على مستوى العالم، أو أن يضعف الصعود الصيني الهيمنة الأميركية ويفتح مساحاتٍ للمناورة، والمستقبل، عدا ذلك، لا يدعو إلى الأمل. هذه الخلاصة الأخيرة هي من الأمور التي نختلف فيها مع الكاتب، وهو ممّا سنناقشه في الأجزاء القادمة (يتبع).
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/04/05