موت صغير.. لحياة كبرى!!
عادل خميس الزهراني
«ويظلُّ اللهُ يؤدِّبُنِي، ويعلِّمُنِي مَا يزيدُنِي تواضُعًا وإدراكًا لجَهلِي وقلَّة علمِي...»، كانت هذه عبارة، على لسان محيي الدِّين ابن عربيّ، في رواية محمد حسن علوان (موت صغير)، الفائزة بجائزة البوكر العربيَّة لهذا العام، ليكونَ بذلك ثالثَ روائيٍّ سعوديٍّ يفوزُ بالجائزة، بعد عبده خال، ورجاء عالم.
يثبتُ هذا الفوزُ ما وصل إليه الأدبُ السعوديُّ من تطوُّرٍ يجعله ينافس ما ينتج في بقيَّة الدول العربيَّة بلا شك، كما أنَّه يثبت حقيقةً أخرى أهمّ -في رأيي- هي أنَّ العملَ الجادَّ المنظَّمَ وغيرَ المتسرِّعِ هو الطريقُ الوحيدُ للنجاحِ الحقيقيِّ، وهو ما يتَّضح في تجربةِ علوان، التي مرَّت بمراحلَ تطوُّرٍ متراكمةٍ، حتَّى وصلت إلى ما وصلت إليه مؤخَّرًا.
في رواية (موت صغير) يقدِّم علوان لقارئه عملاً أدبيًّا محكمًا، يحكي بلغةٍ أدبيَّةٍ ممتعةٍ تفاصيلَ حياة متخيَّلة لابن عربي. ولأنَّ ابن عربي ليس مجرَّد شخصيَّة عابرة، فقد وجب على المؤلِّف أن يجتهد في بحثه التاريخيِّ والجغرافيِّ والاجتماعيِّ عن تلك المرحلة التي يشوبها كثيرٌ من الغموض، كما كان عليه أنْ يكونً حذرًا في اختيار المحطَّات التي يركِّز عليها في سرده لحياة شخصيَّة معقَّدة وجدليَّة في التاريخ العربيِّ. وكان عليه -بالطبع- أنْ يقدِّمَ كلَّ ذلك بلغةٍ سرديَّةٍ جذَّابةٍ، تراعي شرطين خطيرين هما: أدبيَّة اللغة، وملاءمة اللغة للعصر الذي تدور فيه الأحداث، مع ضمان الحفاظ على قارئٍ في العصر الحديث. ولا أحسبُ أنَّها مهمَّةٌ سهلةٌ، ولو استسهلها بعضُ الكتَّاب مؤخَّرًا، فخرجتْ أعمالُهم مشوَّهةً ومضَّطربةً.
لقد كان إمبرتو إيكو في السابعة والسبعين من سني عمره، وهو يكتبُ كتابه الشهير (اعترافات روائي ناشئ)؛ ويبرِّر (إيكو) لدعوة نفسه بالناشئ، أنَّه لم يُصْدِر إلاَّ خمس روايات، لكنَّ العددَ ليس مهمًّا في هذا السياق، إذا ما نظرنا إلى الجهدِ العظيم الذي بذله (إيكو) في إنجاز رواياته، وأشهرها (اسم الوردة). لقد تطلَّب منه العمل قضاء ساعات لا تُحصى في البحث في كتب التاريخ، ومخطوطات العصر الذي دارت فيه أحداث الرواية، والسفر إلى أماكن عديدة، والمكوث لشهور أحيانًا في أديرةٍ غربيَّةٍ للوقوف على أكبر قدر من التفاصيل، تبدأ من حفظ تصاميم المكان بقاعاته، وغرفه، وواحاته، وأروقته، وانتهاءً بإدراك الفرق بين روائح الأمكنة المختلفة.
تستقبل الساحة الثقافيَّة العربيَّة سنويًّا عددًا هائلاً من الأعمال الأدبيَّة لكتَّاب وكاتبات من مختلف الأعمار والتوجُّهات، وقد أصبحت الأعمال (المغلفة) الرديئة ظاهرةً ثقافيَّةً -للأسف- بعد أن أصبحَ حلمُ الشهرةِ أكثرَ إغراءً وقربًا. ومن المحبط فعلاً أنْ نرى هذا الاندفاع في كتابة السرد ونشره، دون اهتمامٍ بالشروط الفنيَّة الواجب معرفتها قبل البداية في عمليَّة الكتابة، ناهيك عن عمليَّة النشر بعد ذلك.
كُنَّا نحرصُ على أن يلمَّ الكاتبُ والكاتبةُ بشروطِ اللغة الأدبيَّة، والتصوير الفنيِّ الدقيق، وتقنيات السرد المختلفة، فأضحينا ندعو اللهَ أن ينجِّي الأعمالَ الأدبيَّةَ من الأخطاءِ النحويَّةِ والإملائيَّةِ المخجلةِ، التي تكتظُّ بها كثيرٌ من الروايات، والمجموعات القصصيَّة.
احترامُ الكتابة، واحترامُ الجنس الأدبيِّ، واحترامُ القارئ، منطلقاتٌ مهمَّةٌ وضروريَّةٌ لكلِّ عازمٍ وعازمةٍ على الكتابة.. هذه المنطلقات كانت -بلا شكٍّ- في ذهن إمبرتو إيكو، الروائي الناشئ -كما يصف نفسه- وذهن ابن عربي، ذلك الذي ألَّف عنه علوان رواية حصدتْ (البوكر) باستحقاقٍ.
صحيفة المدينة
أضيف بتاريخ :2017/05/04