التحالف الإسلامي والمعضلة الكبرى
طراد بن سعيد العمري
لازال الوقت مبكراً للحكم على المبادرة السعودية والإعلان المفاجئ للبيان المشترك لإنشاء “التحالف الإسلامي العسكري” نظراً لغياب كثير من التفاصيل حول الإستراتيجية؛ والأهداف؛ والتكتيك؛ والدول المشاركة وغير المشاركة؛ والكلفة؛ والتوقيت؛ وفرص النجاح والفشل. لكن الأكيد أن إنشاء تحالف إسلامياً عسكرياً سيخلق معضلة كبرى بمعنى أن في حالة نجاح التحالف ستظهر مشكلة، كما أن في حالة فشله سيخلق مشكلة أيضاً. وسنبحث بالتفصيل المعضلة، ثم نطرح كثير من التساؤلات الجوهرية والمشروعة لمحاولة فهم طبيعة هذا التحالف والمئالات المُحتملة والخيارات المتاحة.
أولاً، المعضلة Dilemma هي “برهان ذو حدين يكره الخصم على اختيار أحد من بديلين كلاهما في غير مصلحته مأزق”، بمعنى آخر، هو الاختيار بين حلين أحلاهما مر. هذا ما ينطبق على إنشاء التحالف الإسلامي العسكري، فإن نجح التحالف في تأليفه وإدارته وأهدافه، وهذا ماتتمناه الدول الإسلامية المشاركة، فسيكون ذلك مشكلة لأن القوى العظمى لن تقبل بتحالف إسلامي عسكري وستحارب هذا التحالف بشكل علني أو خفي، مباشر أو غير مباشر، لأن قوة ونجاح التحالف سيهدد مصالح القوى العظمى وسيحد من هيبتها وهيمنتها وأحاديتها في اتخاذ القرار الدولي، حسب تصورها ومفهومها، وإن فشل هذا التحالف، لا سمح الله، فسيخلق ذلك مشكلة تنعكس سلباً على سمعة الدول الإسلامية، إذا لم نقل الإسلام ذاته، وعلى السعودية بشكل خاص لأنها الدولة القائدة لهذا التحالف، كما أنها دولة المقر، حتى لو كان السبب من الدول المشاركة وضعف تفاعلها أو ترددها.
ثانياً، العنصر الأساسي في خلق المعضلة للتحالف يكمن في المسمى وإدخال مصطلح “إسلامي”. (١) قد يخلق هذا المصطلح من العداوات والفرقة الشيء الكثير بين الدول الإسلامية المشاركة وغير المشاركة، فلازالت دول فاعلة في العالم الإسلامي لم تشارك في التحالف مثل: أفغانستان وإيران والعراق وسوريا والجزائر. (٢) قد تعتبر بعض الدول والمجتمعات الإسلامية أن التحالف بني على أسس طائفية وأنه تحالف سني يستهدف الشيعة وإيران تحديداً. (٣) السعودية على مدى تاريخها تنأى بنفسها عن حشر الإسلام (الدين) في أي مسميات سياسية أو اقتصادية. بل أن الشواهد الحاضرة اليوم تدلل على أن السعودية في خصومة مع أولئك الذين يتخذون من الإسلام مسميات وصفات مثل: الثورة الإسلامية في إيران؛ والأخوان المسلمين في مصر؛ والدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”. (٤) إذا لم يحتمل العالم قبول فكرة تنظيم لإنشاء دولة إسلامية في جزء من العراق والشام، فهل سيقبل بإنشاء ونجاح تحالف إسلامي عسكري يضم أكثر من (٣٤) دولة تمتد في قارتي أسيا وأفريقيا؟ (٥) وبأهمية خاصة، سترفض الدول والمجتمعات الغربية التحالف الإسلامي العسكري، مثل ما ترفض الدول والشعوب الإسلامية إقامة “تحالف مسيحي عسكري”، لأنه سيعيد إلى الذاكرة مباشرة الحروب الصليبية؟
ثالثاً، العنصر الثاني في المسمى يكمن في مصطلح “عسكري”. (١) كيف ترى بقية دول العالم الغير إسلامية “تحالف إسلامي عسكري” يناقض الحجج التي يجادل بها العلماء والمفكرين والعقلاء بأن الإسلام دين السلام؟ (٢) لقد أثبت التاريخ القريب أن محاربة الإرهاب عسكرياً قد أدت إلى فشلاً ذريعاً للقوات الأمريكية وحلف الأطلسي في أفغانستان على مدى (١٤) عاماً، وفي العراق على مدى (١٢) عاماً، وهاهي الأحلاف والتحالفات العسكرية بقيادة ومشاركة القوى العظمى لم يظهر لها نجاح في محاربة الإرهاب والقضاء عليه في سوريا. فكيف بدول إسلامية متواضعة نسبياً في قوتها العسكرية وتستمد تسليحها من القوى العظمى؟ (٣) معظم التنظيمات الإرهابية على المسرح الدولي هي تنظيمات ترفع شعار الإسلام، فهل التصدي لهم ومحاربتهم عسكرياً من تحالف إسلامي سيكون مقبول أخلاقيا من سائر الشعوب الإسلامية، وهل سيحدث ذلك انفصام جماعي وانفصال بين الشعوب وحكوماتها؟
رابعاً، لاتزال كثير من التفاصيل حول إستراتيجية التحالف الإسلامي العسكري غير معروفة حتى الآن، وعند رسم وصياغة الإستراتيجية ستضطر قيادة التحالف إلى تضمين الإستراتيجية ثلاثة أمور: (١) تعريف الإرهاب وهذا ما أحجمت عنه كافة دول العالم مما جعل من استراتيجياتها في محاربة الإرهاب بشكل عام فوضوية وفاشلة. (٢) تحديد الجماعات والتنظيمات الإرهابية المستهدفة وهذا سيخلق شيء من الاختلاف بين المشاركين على أسس التصنيف بمن هو التنظيم الإرهابي ولماذا وكيف. (٣) توضيح الأهداف وهذا في حد ذاته سيشكل عقبة كؤود أمام قيادة التحالف وكثير من الدول أمام دساتيرها وبرلماناتها وشعوبها، “فالشيطان في التفاصيل” كما يقول المثل. هنا قد يصاب التحالف المزمع إنشاءه بأول رياح التفتيت والتشرذم مما قد يضطر السعودية إلى أحد أمرين: أما التحلي بالشجاعة السياسية وإلغاء فكرة التحالف، أو القبول بالحد الأدنى من المشاركة حفاظاً لماء الوجه و خوفاً من الخسارة والفشل. وفي مثل هذه الحالة ينقسم التحالف إلى قسمين: دول فاعلة وأخرى غير فاعلة.
خامساً، العنف هو ظاهرة بشرية ويأتي من غياب البدائل. أما العنف السياسي الذي يطلق عليه “الإرهاب” اليوم، فقد رافق التجمع البشري منذ الأزل، وبخاصة مع نشوء الدولة الحديثة في القرن السابع عشر وأتخذ أشكالاً عديدة أهمها وأبرزها حركات التحرر والمنظمات الانفصالية التي تنامت في القرن الماضي وله أسباب معروفة ومحددة: (١) ضعف النظام الدولي العجوز الذي تأسس في العام ١٩٤٥م بعد الحرب العالمية الثانية وانحيازه لمصالح القوى العظمى؛ (٢) ضعف مفهوم الدولة المدنية الحديثة في بعض المناطق وعجز الحكومات عن إدارة وتنمية مجتمعاتها؛ (٣) استغلال القوى العظمى هشاشة بعض الدول وضعف حكامها والعبث بها واستقطابها واستنزافها. (٤) تطور المجتمعات البشرية بشكل يتعدى الإطار السياسي “الويستفالي” فظهرت الحركات المناوئة لهذا الإطار السياسي متخذة أشكال متعددة ومتبنية أيديولوجيات مختلفة. مما يعني أمرين: (أ) أن الإرهاب محلي يرتبط بالدولة القطرية ذاتها في التصنيف والمكافحة؛ (ب) أنه من المستحيل القضاء على العنف السياسي (الإرهاب) مالم تتغير عدد من العناصر المسببة والمذكورة أنفاً.
سادساً، أن تبادر السعودية إلى حشد الطاقات في الدول الإسلامية لمحاربة الإرهاب الذي أرتبط زوراً وبهتاناً بالإسلام، فذلك يحسب للسعودية كدولة رائدة وقيادية في العالم الإسلامي تجتهد قدر الإمكان لتنقية ما علق بالدِّين الإسلامي من تشويه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وممارسات القاعدة، و”داعش” والتنظيمات الإرهابية في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا، بالإضافة إلى أحداث سيناء، وباريس، وسان برناردينو، مؤخراً، وتطلع العالم أجمع إلى القيادة السعودية بأن تعمل شيئا جماعياً يدرء عنها الشبهات ويترجم سياسة السعودية ضد الإرهاب. لكن لدى السعودية خيارات كثيرة تكمن في قوتها الغير ملموسة Intangible Power والتي تفوق أضعاف أضعاف قوتها الملموسة Tangible Power، ألا وهي قوتها الناعمة أو المعنوية ولديها مؤسسات ومنظمات دولية فاعلة مثل: مجمع الفقه الإسلامي؛ ورابطة العالم الإسلامي؛ ومنظمة التعاون الإسلامي. إذا أن صلب الإرهاب الذي يشتكي منه العالم اليوم يكمن في الفكر المتطرف الذي تتبناه التنظيمات الإرهابية باسم الدين.
سابعاً، يمكن للسعودية أن تنجح في قيادة جهد جماعي لمحاربة الإرهاب يتمثل في ثلاثة أبعاد ذكرها الأمير محمد بن سلمان: (١) البعد الأمني، إذ تستطيع الدول الإسلامية عموماً والدول التي تعاني من الإرهاب خصوصاً أن تستفيد من التجربة السعودية في محاربة الإرهاب أمنياً، وهو ما توفقت وتفوقت به السعودية وشهد لها العالم أجمع بذلك. (٢) البعد الفكري، إذ يمكن للسعودية أن تُمارس جهد أكبر في مجمع الفقه الإسلامي لإقناع الفقهاء (العلماء) لكي يعملوا بجدية أكبر وأكثر وينفضوا عنهم “الكسل”، لتجديد الخطاب الديني ومراجعة كثير من القَصص والآيات والنصوص الواردة في التنزيل الحكيم والأحاديث الصحيحة في السنة النبوية المطهرة واستنباط معاني جديدة لمصطلحات مثل: الجهاد؛ والكفار؛ والمشركين؛ والولاء والبراء؛ وحرية المعتقد؛ والردة وغيرها من المصطلحات. (٣) البعد الإعلامي، إذ يمكن للسعودية أن تُمارس دورها القيادي من خلال منظمة التعاون الإسلامي في استصدار قرار يحظر على الدعاة والخطباء الحديث في المسائل الشائكة والمعقدة ونشرها في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي والكف عن الحديث في الشأن السياسي والمواضيع ذات الطابع الجدلي كما فعل المغرب.
ثامناً، وأخيراً، السعودية دولة قيادية وفاعلة في المجتمع الدولي، كما أنها اليوم زعيمة العالم العربي والإسلامي من دون منازع، ولذا ليست بحاجة إلى تحالف إسلامي عسكري لكي يضيف إليها قدر من القيادة أو الزعامة، فمثل هذا التحالف معضلة لا مخرج، ومشكلة لا حل، ومغرم لا مغنم. السؤالين التي قد تتبادر إلى أذهان كثير من المواطنين: (١) ماهي المنفعة المباشرة التي ستعود على المواطن السعودي من ملاحقة الإرهابيين والتنظيمات الإرهابية خارج الحدود السعودية وفي كافة أصقاع الأرض؟ (٢) ماهي الحكمة في الخروج من تحالف عسكري والدخول في تحالف أخر، ومدى انعكاس ذلك على الموارد المالية السعودية وبأهمية خاصة التنمية الداخلية؟ ختاماً، المكر الأمريكي الذي تمثل في دعوات متكرره للزج بقوات برية خليجية في سوريا، والتصاريح الأمريكية بالارتياح تجاه هذا التحالف قد يكون فيه نوع من استنزاف الموارد وتوريط السعودية في حروب لا أخر لها، على غرار ما قامت به السفيرة الأمريكية غلاسبي عند اجتماعها بصدام حسين مما أدى لتوريطه في غزو الكويت. حفظ الله الوطن.
كاتب، ومحلل إستراتيجي
صحيفة أنحاء
أضيف بتاريخ :2015/12/18