هل سنصحو على نهاية مسلسل الخطيئة والغفلة؟
محمد عبدالله فضل الله
بغض النظر عن تأويلات الخطيئة في القاموس الديني وأنها استمرارية لخطيئة آدم الأصلية وغير ذلك من تعريفات تضمنها اللسان اللاهوتي الكنسي ومنها ما ورد في معجم أندري لالاند: «الخطيئة خطأ أخلاقي باعتباره فعلاً واعياً صادراً عن إرادة سيئة، وبنحو خاص باعتباره خروجاً إرادياً على وصايا الله»، فإننا نشهد إصراراً فاضحاً يدمنه البشر على خطيئة يحاولون بعدها التبرير والدعوة للمغفرة في أدبيات طويلة ومتنوعة الاستجداءات التي لا يريدها الخالق وتتنافى مع أصل الخلق الآدمي المكرّم، لأن الاستجداء ضعف وسقوط ولا يعبّر عن طبيعة أصيلة في الإنسان.
للأسف إنه الانفصال عن الحق والتمرد على الحقيقة عندما يتجرأ المرء على الخطيئة التي تلف واقع سلوك الناس النفسي والاجتماعي والفكري والديني الطقوسي ويبنون على التمرد على قانون الله وصراطه قوانينهم وتبريراتهم التي لا تخدم سوى قساوة أنانياتهم المرضية التي تخرجهم عن طبيعتهم وتهدر كراماتهم وتسلب إرادتهم أو على الأقل تطويعها وفق أجندات بعيدة عن حماية جوهر الإنسان من الانغماس في الخطايا والابتذال.
كم هي تجليات الخطيئة من تكفير وتعنيف وتسطيح وتجهيل وممارسة الأذى للغير معنوياً ومادياً عبر التاريخ الذي لا نزال نعيش فصوله الموجعة، إذ نشهد إصراراً على تجهيل الأجيال وإفراغ عقولها وحشوها بما لا يليق بها، وجعلها مجرد سلعة أو آلة يسهل التحكم بها، ناهيك عن التنصل من المسؤوليات الخاصة والعامة التي باتت مستحكمة بواقعنا لدرجة إماتة مشاعرنا وتوجيهها وفق مقتضيات المرحلية والظرفية والعصبية الحزبية والعائلية والفئوية، حيث نرى حب الذات والشهرة، وحب البروز وطغيان الأنانية والعصبية، وسيطرة التمييع والتعلق بالمظاهر المفرطة والانفعالية والتطرف الأعمى، والانعزال عن الآخر وبناء المتاريس من حولنا، ولو كان ذلك على حساب الآخرين وأمنهم ومصالحهم ووجودهم.
لا مجال للمهادنة فعندما تقع الخطيئة، فإن الحق الذي يتساوق معها في طبيعة الإنسان كفيل بفضحها وتعريتها، ولكن البعض من حركات متشددة بآلتها الدعائية والإعلامية والدينية والمادية وبدعم من المستعمرين الجدد للإنسان قد جعلوا الناس العاديين يدمنون التبرير ويتعلقون بمخارج واهية فإذا ما كفّر أو اعتدى تراه مستحضراً لرزمة من النصوص الدينية «الحديثية» والتاريخية التي يستوحون منها ما يتصرفون به على أساسها وقد شهدنا ونشهد فظاعة ما قامت به جماعات متشددة من ترهيب وقتل وتدمير وتدنيس لكل أشكال الحياة ومع ذلك فأدبياتهم كانت كالورقة التي يحاولون بها ستر عورات خطاياهم.
في النص الديني الإسلامي: (... مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً...) (المائدة :32).
إذا ما ربطنا ما تعنيه الآية بالخطيئة فإن كثيراً من مواقعنا وأحوالنا ستتعرى وتفضح، سنفضح أنفسنا أمام ضمائرنا، فليس قتل النفس مقتصراً على التصفية الجسدية بل على قتل الإنسان معنوياً. وليس الفساد في الأرض يختص بالسرقة والغش والكذب والبهتان وقول الزور، بل يتعداه أيضاً في ما يتعدى إلى سرقة العقول واستغلالها وإفراغها ومحاولة تخديرها بخطاب ديني مستهلك وجامد لا يلبي الغذاء الروحي والفكري السليم، وهنا تقع الخطيئة الكبرى حيث يدمن السارقون والمتاجرون من رجال دين وسياسة فن النفاق والدجل وتزوير التاريخ واستباحة الذاكرة الجمعية للناس وحرفها كلياً كما فعل مؤخراً ترامب باعترافه بالخطيئة الكبرى بسلب القدس والتي ترتقي إلى مستوى الجريمة بحجم الإنسانية والتي لا بد من محاكمته عليها إن كان هناك من ضمير حي.
إن التلاعب بمشاعر البعض وتلهيتهم بقشور وخطفهم إلى دوائر تاريخية وعقيدية عاف عليها الزمن وحبسهم هناك تلتقي مع المشروع الاستعماري الجديد من أجل إفقاد الجيل الصاعد قدرته على الفعل والتأثير والنشاط المطلوب في صوغ شخصية ناضجة منتجة مبدعة لا تعيش فقط على الوصف والسردية لما جرى بل تقف موقف المحلل والناقد والمسؤول عن إعادة التفاعل الحي والمطلوب مع حقائق التاريخ بغية النهوض وسد الفراغ الذي ينهش الواقع بكل فصوله وأشكاله.
المشكلة أن البعض من مؤسسات رجعية دينية وغير دينية لا تتجرأ على الاعتراف بالخطيئة الكبرى في تغاضيها عن الواقع والسماح لأبواق الجهل والسخافات وتسطيح الناس بخطابات خشبية ولغة غيبية منفصلة عن الحياة وعاجزة عن تغذية جيل اليوم إذ كل همها البقاء متسيّدة لحفنة من مستزلمين هنا أو هناك وذلك قمة العنجهية وغاية الإجرام في قتل الناس عندما تغتال وعيهم وتحاصره بالتفاهات، لأن القتل للوعي يطال العقل الجمعي ويعم الناس حيث تأثير الإجرام خطير بحيث يعرقل مسيرة تقدم الناس في مختلف مناحي حياتهم ويشلهم ذهنياً وفكرياً وروحياً ويجعلهم خامدين لا حركة لهم ولا لون ولا تأثير مجرد جمادات بأشكال آدمية. وهذا مناقض تماماً لإرادة ربانية تدعو الناس أن يكونوا أمناء بحق بعضهم البعض ويأخذوا بأيدي بعضهم إلى شاطئ الأمان بعيداً عن خطيئة أدمنوا معاقرتها تقف بوجه استخلاف الأرض وإعمارها كما شاء الله ذلك.
الخطيئة في القاموس المسيحي تتقاطع مع مصطلح الغفلة في الدين الإسلامي
إننا مسؤولون كلٌّ في موقعه عما وصلنا إليه من حال متردية، فالمعلم والأكاديمي الذي يتهاون برسالته التوعوية يمارس الخطيئة والمعمم الذي يثير العصبيات والغريزة المذهبية والذي لا يقدم علماً ووعياً للناس هو مجرم يمارس ذروة الخطيئة، والسياسي الذي يبيع ضميره ويقدم مصالحه هو مجرم أيضاً وعنصري، والمسؤول في أي موقع كان إن سوّلت له نفسه استثمار أو توظيف دماء مقدسة طاهرة في سبيل منفعته هو من أكبر المجرمين والخطائين، إذ يغتال بتصرفه كل روح جمعية بريئة طيبة أنتجت مجاهدين شرفاء، والشباب الذين يملكون وعياً ولا ينهضون ويقاومون الروح الانعزالية في المجتمع ولا يناضلون من أجل تغيير الحال على الأقل الدفاع عن الحق هم أهل خطيئة، وأهل القلم والفكر الذين لا يتجرأون ويفضحون المتاجرين بأمن الناس وأمانهم الاجتماعي والروحي والفكري هم أيضاً من أصحاب الخطيئة. ما يجمع أهل الخطيئة هو السكوت الذي يعكس ضعفاً واستسلاماً لروح منحطة لا تزال تتجاوب مع التمرد على الأنا التي تفكر خارج حدود الأنانيات وتسعى لإثبات إنسانيتها عبر فعل اجتماعي وإنساني يقتحم ساحات التحدي والحياة ويكتب نشاطاً مقاوماً لكل تراجع وانحدار عن خط التكامل الذي أراده تعالى للبشرية من أن تسير عليه وتجمع بين لحظاتها وتنسق جهودها وطاقاتها من أجل نبذ الخطيئة والعودة الواعية إلى الأصالة وإلى صحوة ضمير تجاهد كل نوع من الخطايا مهما كان.
الخطيئة في القاموس المسيحي تتقاطع مع مصطلح الغفلة في الدين الإسلامي، فالروحية واحدة لكلا المصطلحين إذ الغفلة عن حمل الأمانة العلمية والتثقيفية والتعليمية والتنويرية للأجيال، والغفلة عن الاستجابة المجنونة لأنانيات الذات وأهوائها، والغفلة عن روح القيم والدين في بناء إنسان يشعر بمسؤولياته ويستجيب لصوت الحق والضمير الحي، والغفلة عن تأسيس عقل منتج وعملي ينفتح على كل التجارب البشرية الواعية يعيد الاعتبار للكرامة المهدورة بغية النهوض هو بمعنى آخر ارتكاب فاضح لخطيئة ممعنة في قتل النفس وتغييب دورها وفاعليتها عن مشهد وجودي بتنا خارج التأثير به ايجاباً لصالح الانسحاق أمام مؤثراته والإمعان أكثر في خطيئة نغلفها أحياناً بغلافات تبريرية خداعة وبراقة ترضي نهمنا وجشعنا.
فما يحكم الحياة التعاون النفعي بين تجار الضمير من ساسة وبعض رجال الدين والكهنوت إذ تتم التغطية على الخطيئة من قبلهم ما داموا لا يتحركون لمواجهتها فعلياً عبر خطاب متجدد ومتحرر من التأويل التقليدي والتاريخي الجاهز والمعلب. فالخطيئة بخدمتهم حتى تبقى أصواتهم ومشاريعهم حية، في حين نجد قلة ممن يميزون بين ما هو دنيوي مشروع ودنيوي غير مشروع.
ونتساءل هل الخطيئة قدراً مقدوراً على الآدميين الذين استبيحت كراماتهم واعتُدي، ولا يزال، على حضورهم وهويتهم؟!
إن الدين يستثير كوامن البشر كي يرفضوا مجرد التفكير بالخطيئة فلا قيمة لخطاب ديني لا يرتقي إلى مستوى المواجهة عبر تأهيل الذات حتى تتمرد على انشدادتها الأرضية الدنيوية التي تخدّر الوعي الجمعي وتسلبه تأثيره المطلوب. هنا تبرز قيمة من قيم الدين الرئيسية التي تضعنا أمام امتحان الخطيئة والخروج منه بنجاح. هذا الخروج المطلوب في الدنيا تحقيقه كي تنتفع به الحياة وهنا أهمية الدين في خلق إنسان جدير بالحياة والخلود يترجم جدارته إنجازات تبني المجتمع يستحق من خلالها العبور إلى الآخرة بسلام وليس إنسانا أنانياً عندما يفكر فقط كيف يدخل الجنة وحده وهنا غاية الخطيئة الكبرى أيضاً. أما الخطابات اليابسة الفارغة من أي تأثير تأهيلي للنفس، فإنها لا تنفع لا بل على العكس تخدم الخطيئة وأهلها كثيراً. ونستحضر في هذا المقام ما قاله يوما المفكر علي شريعتي: «إن الدين الذي لا ينفع الإنسان قبل الموت لا ينفعه بعد الموت أيضاً».
إذا أردنا البداية في مشروع مواجهة الخطيئة لا مناص من الجرأة في البدء بإصلاح الباطن والتركيز على تهذيب مشاعرنا وأخلاقنا ومراقبة حركتنا وتصرفاتنا وبناء وعي منسجم مع لحظاتنا الصافية التي تتفاعل وتتصرف وفق الحق والحقيقة كي نضع أرجلنا على سكة الكدح الطبيعي إلى الله بما يعنيه ذلك من الشعور بالمسؤولية والتربية على مواجهة التحدي وعدم الخنوع والخضوع والتبعية العمياء والخروج من الحسابات الذاتية والفئوية وترجمة التوحيد تمركزاً حول ذات واحدة تمسك بزمام المبادرة وتبرز تحررها وأصالتها في كل وجوه الحياة.
لا يمكن أن نستحق الوجود المشرف ولا أن نكون خلقاً من عباد الله ونحن نُشهد أنفسنا ونُشهد الله والتاريخ على أننا من الخطائين الغافلين وإن أتقنا فن التلاعب والمراوغة، فالمشكلة أن واقعنا ومستقبلنا يدفعان ثمناً باهظاً وثقيلاً مزيداً من التشتت والضياع والخراب والتدمير وشللاً ويباساً في ذهنية العمل والنماء على المستوى الإنساني والاجتماعي والروحي. فالصحوة في الضمير والمواقف والمشاعر والأفكار وفي التربية والسياسة والدين والاجتماع تنتظر من يخرجها من دفاتر التناسي والتجاهل إلى فضاء التلاحم والتكافل والتعاون على البر وتقوية النسب والقرابة المعرفية والتوعوية المشتركة بين البشر القائمة على الكلام النافع الذي يحيي الإنسان في محاكاته لكلمة الله التي تمنح الحياة في كل شيء.
الفرصة رغم السوداوية الطاغية لا تزال متاحة تنتظر أصحاب القرار والحرية والشجاعة وتنتظر من يتلاقون ويتعارفون ويتعاونون على رفض الخطيئة والغفلة وأهلهما والعمل لإطلاق إمكانات الأمة كي تنتج رجالاً أحراراً يَقِظين يستحقون الخلود في كتاب الحياة وعالم الشهادة. فالخير في الأمة ليس في كثرة عددها غير المجدي، بل في فعلها التغييري المواجه للغفلة والخطيئة على مدى الزمن، وهنا التحدي الكبير للفرد والجماعة.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/01/03