أوضاع هشة
قاسم حسين
كشفت التطورات الاقتصادية الأخيرة كم أن أوضاعنا هشّة إلى درجةٍ مريعة.
حتى الآن لم يطرأ على الساحة غير عاملٍ متغيّرٍ واحد، وهو تراجع أسعار النفط. لم تحدث - وإن شاء الله لن تحدث - حربٌ على نطاق واسع، وكل النزاعات والحروب الحالية تتم على الأطراف، ومع ذلك بدأت هذه المعاناة العامة. ولمواجهة هذا الوضع الصعب، لجأت حكومات المنطقة إلى رفع الدعم عن سلع وخدمات رئيسية، ربما لأول مرةٍ منذ إعلان استقلال أغلب هذه الدول قبل نصف قرن.
النصائح التي تلقتها هذه الدول من المؤسسات الدولية، رفع الدعم عن النفط والكهرباء والماء، في سلّة تشمل سلعاً أساسيةً وخدمات أخرى، قد تُنفّذ بالتدريج. وهي أمورٌ كانت تبدو بعيدة، حين كنا نسمع أو نقرأ عنها، ضمن أخبار الدول الأخرى، ولكنها باتت اليوم موضع التطبيق لدينا.
قبل مئة عام، كانت هذه المنطقة تعتمد أساساً على الغوص وتجارة اللؤلؤ، مع الاستفادة من موقعها المتوسط كخط مواصلات بين أوروبا وشبه القارة الهندية وجنوب آسيا. وكانت البحرين تحديداً محطة ترانزيت في هذه التجارة، بين الهند والعراق وفارس ونجد. وكان لدينا قطاع زراعي نشط، يوفّر الاحتياجات الرئيسية لسكّان لا يزيدون عن 100 ألف، فيما يُوجَّه جزء آخر صغير منه للتصدير. كان الاقتصاد يعتمد أساساً على تجارة اللؤلؤ، كما نعتمد الآن تماماً على النفط.
في ثلاثينيات القرن الماضي، حدث تطوّر «تقني» لم يكن في الحسبان، وهو نجاح اليابانيين في استزراع اللؤلؤ، وهو ما أطاح بتجارة اللؤلؤ. في تلك الفترة الحرجة تدخلت الرحمة الإلهية لإنقاذ الوضع، باكتشاف النفط على أيدي الشركات الأجنبية الباحثة عن امتيازات في إيران والعراق وجوارهما الخليجي. وهكذا كان النفط طوق النجاة لشعوب المنطقة، حيث بدأ يتغيّر وجه هذه المنطقة وأوضاع شعوبها، وتوسّع دور حكوماتها وتأثيرها في الداخل والخارج.
لم يكن لنا أي فضلٍ أو دورٍ في تحسين حياتنا، ولا اكتشاف ثرواتنا، فقد كان النفط موجوداً منذ آلاف السنين، وكان الأجداد يستخدمونه لعلاج الجرَب الذي يصيب الجِمال، وفي بغداد حيث كانت مركز الحضارة الإسلامية أيام العباسيين، استُخدم النفط في صورته الخام (القار) لطلاء الحمّامات (المسابح) العامة، لحفظها من الرطوبة. وقد وصف ذلك بالتفصيل الرحّالة ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري حين زار بغداد.
ظلّ النفط يفيض من الآبار بعد رحلة ابن بطوطة لعدة قرون، فيتجمّد على حافّة الفتحات التي تتفتق عنها الأرض فيما يشبه البرك. ولم يفكّر أحدٌ في استغلاله، حتى جاء الأجانب مطلع القرن الماضي، بعد أن تقدّموا في ميادين العلم والصناعة واختراع الآلات، بينما بقينا نستخدمه في إشعال المصابيح الزيتية، وعلى نطاقٍ ضيّق جداً.
لقد بقي النفط متسنّماً عرشه، لأكثر من مئة عام، شيّدنا خلالها المدن الجديدة بفضله، ورمّمنا المنازل القديمة، وأخذنا نتباهي ببناء أعلى الأبراج، وافتتحنا أضخم المجمّعات، واستوردنا آخر ما كانت تبتكره عقول الشعوب الأخرى من مخترعات ومنتجات. حتى فواكه الشتاء كنا نستوردها في الصيف بالطائرات. لقد عشنا في الخليج، بفضل النفط، في سعةٍ نسبيةٍ من العيش، تتفاوت بين دولةٍ وأخرى، حتى استقر في أذهاننا أن النعمة ستدوم إلى الأبد: ننزف من آبار النفط من تحت أقدامنا ونبيعه ونعيش في رخاء.
لقد انتهى عصر اللؤلؤ قبل تسعين عاماً، وحلّ محله النفط، الذي يوشك أن يستنفد عصره، ولكنّ خطأنا الأكبر أننا لم نفكّر في أن نحوّله إلى مصدر غير ناضب للثروة، عبر تحويله إلى علمٍ وصناعةٍ وطرق إنتاج. لقد كان ذلك عنوان الفشل الأكبر في سياسات التنمية التي انتهجتها حكوماتنا طوال خمسين عاماً، ولذلك ندفع الثمن الآن.
لقد بدأ النفط يتخلّى عن عرشه، كما تخلّى من قبله اللؤلؤ، وانتهى ذلك الزمان.
الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/01/12