عن السِّلع والمَنع و«الحقّ في الاستهلاك»
عامر محسن
كان أستاذ علوم سياسية اسمه رون هاسنر ــ وهو من أصلٍ إسرائيليّ ــ يقدّم صفّاً عنوانه «الحرب» في جامعة كاليفورنيا. وكان «يصدم» طلّابه بأن يشرح لهم أنّ حجّة «القاعدة» في عدم الفصل بين الحكومة الأميركية وبرج التّجارة العالمي، وبين الدولة والمجتمع المدنيّ، والجندي والمواطن، ليست بلا وجاهة وأساس.
الفكرة هنا هي أنّ نمط الحوكمة في الغرب قد تحوّل، منذ الثمانينيات، الى عقيدة «الشبكة»: بدلاً من أن يكون الجيش والحكومة والصناعات والقطاع الخاص بمثابة «أقانيم» مستقلّةٍ عن بعضها البعض، ومؤسسات مكتفية بذاتها، أصبحت الحكومة تعمل عبر «تشبيك» هذه المؤسسات ــ حكوميّة وخاصّة ــ وتبادل الوظائف والخدمات والقدرات بينها. الجيش الأميركي، مثلاً، يقدّم جنوداً مقاتلين غير أنّه، حول هذا القلب الصلب، تجد «شبكة» كثيفة من المؤسسات المدنيّة والخاصّة أصبحت مرتبطةً عضوياً بالجيش وأساسية لتسيير مهامه، من شركات السّلاح الهائلة وصولاً إلى الفنّانين الذين يزورون الجنود لتسليتهم في الحروب: إعداد الطّعام لهذا الجيش يقوم به اليوم متعهّدون من القطاع الخاص، وكمٌّ كبيرٌ من مهام اللوجستيات والإدارة توكل إلى شركاتٍ مدنيّة، والجنود ينتقلون إلى مسرح العمليات ــ قبيل الحملات العسكرية ــ على متن شركات الطيران الخاصّة، الخ… من هنا، بحسب نظرية الشبكات، يصبح التفريق الكلاسيكي بين الحكومة والمجتمع المدني، أو الجيش والقطاع الخاص، أو الأمن والأكاديميا، أكثر صعوبة وإشكالية من الماضي.
في تحقيقٍ في موقع «كوارتز» لجيف نيسبيتز تذكيرٌ بـ«الأصول الأمنيّة» والحكوميّة لشركات مهيمنة في عالم التقنيات مثل «غوغل». الكاتب، بالمناسبة، كان مديراً في «مؤسسة العلوم الوطنيّة» التي توزّع أموال البحث العلمي في أميركا، وهو يعرف عمّا يتكلّم. يقول نيسبيتز، مثلاً، أنّ البرامج والخوارزميات التي قامت عليها شركة «غوغل» تجارياً قد تمّ تمويلها في الأصل عبر مشاريع بحثية لـ«وكالة الأمن الوطني» و«المخابرات المركزيّة»، واحدٌ للبحث في قواعد البيانات الضخمة وآخر لبناء مكتبة رقميّة. هذه المشاريع، التي خرجت منها العديد من السّلع الشهيرة في أوائل الانترنت مثل «نيتسكايب» وبرنامج «سيمانتيك» ومنتج الشرائح «كوالكوم»، كانت تهدف إلى «اختراق» القطاع الخاص عبر برامج تموّلها المخابرات وتسمح لها بجمع المعلومات وتقديم الخدمات للمستهلكين على نطاقٍ واسع في آن، من دون أن تضطرّ الوكالات إلى تطوير برامجها الخاصّة والحضور في السوق الجديد. يشرح نيسبيتز أنّ أحد أسباب هذه الإستراتيجيّة كان خفض تمويل وكالات الاستخبارات أيّام التسعينيات، فانتقل المخطّطون من النّمط «العمودي» إلى نمط «الشبكة» وتمدّدوا في القطاع الخاص، ودمجوا بين حاجاتهم الأمنية وحاجات الباحثين في الجامعات وروّاد صناعة الانترنت.
من هنا نفهم أخطر ما في تسريبات سنودن (التعاون الوثيق بين الأمن الأميركي والشركات الخاصة) ويمكن لنا أيضاً أن نفهم كلام الصّينيّين عن «السيادة الرقمية» ومنعهم لدخول بعض الاحتكارات الغربيّة إلى بلادهم، مثل «فايسبوك» و«أمازون»، أو تصعيبه؛ وأنّ المسألة هنا سياسيّة واقتصاديّة وليست مسألة «حرّيّات» وتعبير. وإن كنت لا تصدّق، راقب ما يجري اليوم حين تبدّلت الأحوال: منذ أسبوعٍ تأكّد أن شركة «هواوي» الصينيّة ستُمنع ــــ فعليّاً ــــ من بيع هاتفها الذكيّ إلى الجمهور عبر شركات الاتصالات (90% من الهواتف في أميركا تُباع عبر شركات الاتصالات؛ توقّع عقد اشتراكٍ معها فتحصل بالمقابل على جهاز هاتفٍ بسعرٍ مخفّضٍ جدّاً، فلا حافز لديك لشرائه من السوق المفتوح. ولكنّ هاتف «هواوي» لن يكون بين تلك المعروضة للزبائن). كتبت «نيويورك تايمز» أنّ انهيار المحادثات بين الشركة الصينية والمزوّدين الأميركيين، ورفض بيع الهاتف عبرهم، يعود لـ«مخاوف أمنيّة» كون الهاتف صيني وقد تركّب الحكومة عليه أجهزة تنصّت. احتجّ الكونغرس الأميركي على مشاريع الشراكة مع «هواوي»، وأصبح مفهوماً أنّ الشركة الأميركية التي تقدم على بيع الهاتف ستكون معرّضة لتحقيقاتٍ واستجوابات وتطفّل الحكومة، فانسحب الجميع (كثير من الخبراء التقنيّون يعتبر أنّ هذه الحجّة واهية، وأن برامج التجسس التي تزرع يمكن اكتشافها، ولا سوابق جديّة ل»هواوي» تبرّر مثل هذه المخاوف).
عن منعٍ لم يحصل
حين تهوج هائجةٌ في لبنان بسبب منعٍ مفترض لفيلم للمخرج ستيفن سبيلبرغ، ثمّ يتبيّن أنّ المنع لم يحصل، فإنّ هذا يطرح سؤالين: أوّلاً، هل لا زال هناك، في أيّامنا هذه، من يشاهد الأفلام في صالات السينما؟ وثانياً، لماذا يجد البعض الموضوع جدالياً وشائكاً؟ من وجهة نظري فإنّ المسألة بسيطة وواضحة: صهيونيّ حقير يروّج لعدوّي ولحكومته، وهو يتجاهلني بالكامل، ثمّ يأتي إلى بلدي عارضاً سلعته؛ فأن أقبل بدخولها الى أرضي هو، قبل أن يكون غباءً، استصغارٌ وقلّة احترامٍ للنفس. هذا رأيٌ شخصيّ، ولكن الخديعة الأساسيّة التي يمارسها «جماعة سبيلبرغ» في لبنان هي حين يحوّلون الموضوع إلى «حرية رأي» و«قمع ثقافي» فيما هو أساساً موضوع سلعةٍ تجاريّة، مثلها مثل سيّارةٍ عليها علم إسرائيل. الوهم هنا مزدوج، فصانعو الأفلام في هوليوود ينظرون إلى أفلامهم على أنها سلعة، والاستديو الذي أنتجه يراه سلعةً، والموزّعون كذلك، والمخرج هو فعلياً رجل أعمالٍ يخطّط لميزانية ويتوقع عائداتٍ ويدير إنفاق مبالغ طائلة (خرج، منذ أشهر، مقالٌ طريف عن «كسل وودي آلن»، وكيف أنّه ركّب صيغة مكرورةٍ تغري منتجي الأفلام ــــ ميزانية صغيرة، تصوير سريع، لا هوس بالكمال، ينهي يوم عمله في تمام الخامسة ــــ وتمكّنه من إخراج عدّة أفلامٍ في السّنة وإبقاء الطلب عليه مستمرّاً). فيما يصرّ بعض «المثقّفين» في بلادنا على النظر إلى هوليوود على أنها منبع الفنّ الرفيع والثقافة. ولا أحد يوافقهم في ذلك سوى أبناء الصناعة أنفسهم، حين يجتمعون سنويّاً لتوزيع الجوائز على بعضهم البعض ليلة الـ «أوسكار» ــــ في نصٍّ شهير للكاتب الأميركي الراحل دايفيد فوستر والاس، يقارن المؤلّف بين حفل الـ «أوسكار» وحفل جوائز «اي في ان» (وهي خاصّة بأفلام البورنو) ويجزم بأنّ الثانية أصدق وأكثر أصالة من الأولى، ففي الأوسكار رجالٌ ونساء ينتجون عملاً تجاريّاً استهلاكيّاً للعموم، وكلّهم يعرفون ذلك، والجمهور يعلم، ولكنّهم يريدون تقديم منتجاتهم، في ليلة زيفٍ واحتفاءٍ بالذات، على أنّها فنٌّ راقٍ وأعمال إنسانية. أمّا جماعة «اي في ان» فهم واضحون في ما يفعلون ومتواضعون، ولا يأخذون أنفسهم على محمل الجدّ، ويصمّمون جوائز وفئاتٍ تناسب ما ينتجونه، ولا تدّعي الوقار والعظمة.
لا علاقة لما أقول هنا بمضمون الفيلم ولا هو يمسّ حقّ من يشاء في مشاهدته. لو شئت أن تقرصنه وتشاهده في المنزل (كالنّاس الطبيعيين) فهنيئاً لك؛ لو قبلت الصالات بأن تعرضه للجمهور ولكن من غير أن تدفع رسوماً للمنتجين الأجانب، فلا مشكلة؛ ولكن أن يستحصل صهيونيّ مثل سبيلبرغ أو منتجٍ اختار جنديّة إسرائيلية نجمة لفيلمه، على مالنا وعلى مكانٍ في سوقنا هو مشكلة. بمعنى آخر، لمن يزعجه منع فيلم الصهيوني سبيلبرغ أو «المرأة الخارقة»، فإنّ ما حرمت منه هو ليس «حقّك في المعرفة»، ولا أنت وقعت ضحية لـ«الرقابة الثقافية» (فلا معنى أو امكانية لحجب الكتب والصحف والأفلام، ومنعها عن الجمهور، في عصرنا هذا)؛ ما حُرمت منه فعلياً هو «حقّك» في أن تُشاهد الفيلم بطريقة معيّنة، في صالة السينما داخل «المول»، وأنت تحضن كيس البوشار، والمنطقي هو أن تبدأ محاججتك من هنا، وليس من التجربة الروحية ـــــ الفنّية التي كنت ستعيشها مع توم هانكس ووجدتها حُظرت عليك. الموضوع في عرفي لا علاقة له بقوانين وقواعد ولوائح المقاطعة، وأعرف أنّ فعل المنع لن يحرّر فلسطين ولن يفلس هوليوود، المسألة أبسط من ذلك بكثير: هؤلاء صهاينة، يستخدمون سلطتهم للترويج لقتلة إسرائيليين، ويأخذون موقفاً يحتقرنا ويعادينا جهاراً (أي «عدوّ صائل» بلغة الشريعة)، وأن يُحرم منتجهم من تحقيق دولارٍ في لبنان أضعف الإيمان، وهو سببٌ أكثر من كافٍ بالنسبة لي.
يمكنك، بتعابير أخرى، أن تدافع عن «حقّك في الاستهلاك»، وهذا بالضبط هو ما فعله مدير شركة «هواوي» خلال مؤتمرٍ تقني كبير الأسبوع الفائت، حين قال أنّ قرار الأميركيين بمنع دخول هاتفه يمسّ حقوق المستهلكين وخياراتهم (تخيّلوا، صيني يحاضر في الأميركيين عن حرية التجارة)؛ ولكن سيكون من المفارقة أن تدافع عن «حرية الاستهلاك» فيما أميركا ــ التي تبنّت المفهوم عماداً ايديولوجياً لتوسّعها ــ تشهد نكوصا عنه بمبررات «الأمن الوطني» أو التنافس مع الخصوم أو حتى الحسابات الاقتصادية النفعية. لا ضرورة هنا لأن تمتطي جواد التنوير والحضارة دفاعاً عن سبيلبرغ، فيصبح «الفنان» عندك هو ستديو «ميراماكس»، وضحية «القمع الثقافي» هو «فوكس القرن العشرين».
قلب المسألة
مسألة منع الفيلم من عدمه، مع أنّها تستنفر «جماعة سبيلبرغ» وتتحوّل إلى حديث النّخبة في لبنان، إلّا أنّها لا تحمل في ذاتها أهميّة سياسيّة. هناك سقفٌ واطىء في بلدٍ كبلدنا: ما معنى أن تتكلّم على التطبيع، أو عن محاسبة عميل، فيما عملاء إسرائيل هم في قلب النظام السياسي اللبناني؟ لا يوجد نصرٌ في سياقٍ كهذا، وأن تعتبر أنّك تمارس البناء الوطني عبر مقاطعة فيلمٍ لسبيلبرغ أو منعه هو كأن ترى أن الإجابة على واقع الاحتلال في فلسطين تتمثّل برشق الحجارة و«النضال المدني». من المخجل أن تكون لدى صحافيّ لبناني الوقاحة للعمل مع «مركز واشنطن» الصهيوني، الذي يمتلئ بضبّاط العدوّ وجنرالاته، وحيث يتدارسون علناً سبل الحرب علينا وقتلنا، وأن يجلس مع رئيس إسرائيلي قام - حرفياً - بغزو عاصمته وقتل أناسٍ فيها بيديه؛ ولكن ماذا تفعل حين يكون وليد جنبلاط ووجوه 14 آذار هم من دشّنوا الزيارات إلى «معهد واشنطن» و«طبّعوا» معه، ولم يحاسبهم أحد (لا أحد أسوأ من الصحافية هنا إلّا المحكمة العسكرية، التي لم يرعها في كلّ ما سبق الّا كلامٌ ذكر عرضاً حول الجّيش، ولا أسوأ من الاثنين إلّا المدافعين عن «الزميل في معهد واشنطن»، الذين اعتبروا أنّ الأساس في القضية هو - مرّة جديدة - «حرية الرأي»، وليس الخيانة).
«القصّة» الحقيقية في قضيّة زياد الدويري هي ليست زياد الدويري وأفعاله، بل هي في الأشخاص داخل النظام، الضباط والسياسيين والقضاة، الذين أذنوا له وغطّوه ويدعمونه إلى اليوم، وهنا يجب أن يكون التركيز (وأنا أعتبر أن هناك حدوداً للهجوم على دويري وانتقاده، فهو في النهاية فردٌ، لا معنى للتشهير به بعد حدٍّ معيّن. مثلما أنّ سبيلبرغ يصنع أفلاماً عبر باب السوق والربحية، فإنّ دويري - وأمثاله كثر في مستعمرات الجنوب - يصنعون أفلامهم عبر التسويق السياسي والسعي إلى الحظو بتبنّي الغرب ومنحه، وللسوقان جمهورٌ ومؤسسة). بالمعنى نفسه، فإنّ القصّة الحقيقية في موضوع سبيلبرغ هو في «الجوقة» التي أصبحت تنتظم، كلّما احتاج صهيونيّ إلى مساندةٍ ودعم، ويعلو نحيبهم حزناً على الحريّة المهددة. هنا، لا يهمّ أن يكون الدّافع بنيويّاً، بمعنى أن ثقافة هؤلاء وقناعاتهم أصبحت - بصدقٍ - تتماهى مع إسرائيل وأميركا، أو أن يكون جزءاً من خطط إعلامية منسّقة، فهي في الحالتين مؤشّرٌ على ما سنراه من نخبنا في السنوات القادمة، ودليلٌ جديدٌ على أنّنا قد خسرنا هذه الطّبقة وأصبح وجودها ومصالحها في مكانٍ آخر. كدليلٍ بسيطٍ على هذا الواقع، يكفي أن نلفت أنّ هذا الكلام مثلاً لولا «الأخبار»، الصغيرة والفقيرة والتي يعود تصميم موقعها الالكتروني إلى عام 2006 (أي أنّنا، قريباً، سنشهد جيلاً جديداً من القرّاء، ولد بعد إنشاء الموقع على الشّبكة)، لم يعد من الممكن نشره في أيّ مطبوعةٍ عربيّة اليوم.
هذه الواقعة التقطها الصديق يامن ديّوب، حين قال إنّه من الوهم أن نتعامل مع مجتمع النّخب اليوم على طريقة التسعينيات الفاسدة (حين كانت الصحيفة السعودية تستضيف البعثي والليبرالي، المقاوم والمطبّع، وحين كان المثقف اليميني واليساري يبنيان صداقة رغم الاختلاف، ويتجادلان بمحبّةٍ في العشيّة بعد العمل). نحن اليوم في سياقٍ جديد، يقول ديوب، ويجب أن نفهم مستوى المواجهة القائمة ونرتقي إليه. «المعسكر الآخر» لا يريد أن يخترق الطبقة المثقفة وأن يجد لنفسه مكاناً فيها، بل هو قد ساد ويريد الهيمنة الكاملة، وأن يلغي أيّ صوتٍ مضادّ. اللعبة صفرية بالنسبة اليه وهو يريد أن يلغينا بالكامل، ويغتال قضايانا وأولوياتنا ومقاومتنا؛ هذه أهداف أسيادهم وهم لهذا - وليس لأيّ شيءٍ آخر - يستحقّون رواتبهم. سيغتال هذا المعسكر كلّ من يعارضه معنويّاً، وبالجسد لو تمكّنوا. هم في السنوات الماضية قد راهنوا على كلّ ما يمكن تخيّله والانحطاط إليه، من ذبّاحي «القاعدة» إلى الجيش الإسرائيلي، لتحقيق طموحاتهم فلا تتوقّع منهم الاعتدال في المستقبل، أو أن يبارزوك بنزاهةٍ ونبل. من هنا، فأن لا تفهم هذه المعادلة، وأن تتعامل مع واقعنا بمنطق التسعينيات وتسوياتها، هو ليس سذاجةً فحسب، بل بمثابة انتحار.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/01/20