الجامعة: شر البلية ما يضحك
د. مشاري النعيم
إن الحرية الأكاديمية هي نوع من المسؤولية، يتحملها كل العاملين في المجال الأكاديمي، وإذا أردنا أن نحاسب الأستاذ يجب أن نحمله المسؤولية ونعطيه الحرية التي تبين قدراته وإمكاناته
..
أحياناً أسأل نفسي عن قدرة المؤسسات التعليمية، وأقصد هنا تحديداً الجامعات، في بلادنا على مواكبة السرعة التي تتطور بها آليات تنفيذ رؤية 2030. هناك فجوة تتضح لي على أقل تقدير بين فلسفة التعليم الجامعي وبين تطلعات بلادنا المستقبلية. ولعلي هنا أشير على وجه الخصوص إلى «البيئة التعليمية» المادية والإدارية التي تجعل من الجامعات مؤسسات مترهلة جداً. في البداية أعتقد أن الصلاحيات المطلقة لمديري الجامعات تضر بشكل مباشر البيئة التعليمية، تضعفها وتحولها إلى الأسلوب المدرسي الموجه وتفرض وصاية واضحة على أعضاء هيئة التدريس، وهذه قضية أثيرت كثيراً وأشار لها كثير من الزملاء دون جدوى، لأن ثقافة «المدير» مهيمنة على المنهج الإداري ووزارة التعليم لا تستطيع الخروج عن هذه الثقافة، لكن ليس إلى درجة أن يقوم مدير جامعة، بتصنيف أعضاء هيئة التدريس إلى «كبار شخصيات» و «صغار شخصيات» وأن يجعل عمداء الكليات المنوطة بهم مسؤولية «التوجهات التعليمية» من ضمن صغار الشخصيات.
رغم أننا ضد أي تصنيف فما بالكم إذا كان هذا التصنيف يحدث في أروقة الجامعة التي يفترض أنها أحد حراس القيم المجتمعية، لكن دعونا من هذا كله فالتصنيف الذي يمارسه مدير ما نحو من يعتقد أنهم يعملون تحت إمرته شأن داخلي، يفترض أنه ليس لنا علاقة به، لكن أن يقوم مدير لجامعة بمنع ظهور الأساتذة على شاشات التلفزيون أو القنوات الإعلامية الأخرى إلا بإذنه فهذه جديدة علينا. أنا أنقل هذا الكلام الذي أسمعه من الزملاء، وأشعر ببعض الامتعاض، لأنني كنت أتصور أن الرؤية سوف تحرر الجامعة من القيود التي تكبلها وتحقق لها بعض الحرية الأكاديمية التي تتطلع لها، ولكن إذا بالوضع يتردي وتزداد القيود البيروقراطية حول البيئة التعليمية الجامعية وتتقلص حرية الأساتذة إلى الحد الأدنى، وتتحول الجامعة إلى كيان بيروقراطي ويخضع الأساتذة لوصاية غريبة، صاروا يستجيبون لها بشكل مباشر وغير مباشر نتيجة لضغوط «الإدارة العليا» وتحولهم إلى مجرد موظفين روتينيين.
هل يفترض أن تخضع مؤسسة تعليمية بحجم «الجامعة»، أي جامعة، لمزاجية شخص واحد، حتى لو كان هذا الشخص هو «معالي المدير» وهل يمكن أن نتوقع من مؤسسة هذه مواصفاتها أي منتج حقيقي ومبدع. بصراحة لا أستطيع أن أتخيل أن الجامعة يمكن أن تتحرك وتصنع التغيير الذي تنادي به الرؤية وهي خاضعة وخانعة للقرار الفردي. مفهوم الحرية الأكاديمية لم يصل حتى الآن إلى النظام الجديد للجامعات الذي يفترض أن يطبق قريباً. في هذا النظام كان الهم الأول «تخصيص الجامعات» وتغيير الشكل الإداري والمالي وإهمال الجوهر كليا. محاولة معالجة الأعباء المالية فقط دون أي التفات للأسباب التي تجعل من الجامعة عالة على الدولة.
غياب الحرية الأكاديمة وعدم وجود دور واضح لعضو هيئة التدريس يتيح له فرصة للإبداع والابتكار لن يجعل الجامعة قادرة على تحمل تكاليفها لأنها لن تملك شيء تعطيه للناس يوازي التكاليف الباهظة التي تتحملها الدولة عنها. هنا يجب أن أقول إن الحرية الأكاديمية هي نوع من المسؤولية، يتحملها كل العاملين في المجال الأكاديمي، وإذا أردنا أن نحاسب الأستاذ يجب أن نحمله المسؤولية ونعطيه الحرية التي تبين قدراته وإمكاناته. ولا أتصور أن الجامعات السعودية في الوقت الراهن مستعدة لمثل هذا التحول خصوصاً في ظل عقلية الثقافة الإدارية الفردية المتسلطة والغياب الكامل للمحاسبة.
لا يقول لي أحد إن «الجامعة مصنع الأفكار»، لأنه غير مسموح لك أن تصنع أفكارا إلا بإذن، وهذا أمر مؤسف لأن الذهنية المتجمدة التي تتمتع بها البيئة التعليمية في الجامعات تنتقل إلى مخرجاتها بشكل مباشر وغير مباشر الأمر الذي ينعكس على ثقافة المجتمع ككل. تردي المنتج، لم يكن في يوم بسبب قلة الإمكانات ولكن بسبب «تحجر» الإدارة وتوارث هذا التحجر والزيادة عليه من الإدارات المتعاقبة حتى أن من كان أستاذاً في الجامعة قبل ثلاثة عقود صار يتمنى أن تعود تلك الأيام لأن الحرية الأكاديمية كانت أوضح والانتساب للجامعة كان أكثر قيمة.
صحيفة الرياض
أضيف بتاريخ :2018/03/31