أستانة يتصدّى للمشروع الأميركي الجديد!!
د. وفيق إبراهيم
يتفاقم صراعٌ حاد بين مثلث القوى الضامنة في مؤتمرَي سوتشي وأستانة روسيا وإيران وتركيا وبين مشروع أميركي متجدّد يصرّ على الاستمرار في حرب وهمية، يزعم أنها في مواجهة داعش.. ويستند فيها إلى قوات أوروبية وعربية خليجية مواجهة من كرد سورية.. والتمويل كالعادة على عهدة الخليجيين كما أمر الرئيس الأميركي ترامب بأسلوب مهين ورخيص، لم تعهدها العلاقات الدبلوماسية في التاريخ وتشبه أساليب زعماء العصابات.
كيف يبدو هذا الصراع؟
يرتدي شكل تقديم إغراءات للرئيس التركي أردوغان من شأنها إلغاء أدوار مؤتمري أستانة وسوتشي اللذين يلعبان دوراً ميدانياً في خفض التصعيد وتنسيق العلاقات في الميادين العسكرية ويؤسسان للحل السياسي في سورية.
هذا ما دفع واشنطن لإبداء استعدادها بتغطية كاملة لدور تركي شامل في الشمال الغربي لسورية، مقابل الانسحاب من أستانة وسوتشي بما يؤدي إلى تسديد ضربة قوية إلى الدورين الروسي والإيراني.. وكان يمكن أنّ تكون ضربة قادرة على إجهاض مؤتمري أستانة وسوتشي نهائياً. ما يعيد الأمور في سورية إلى بداياتها. للمزيد من التوضيح، فإن بومبيو وزير الخارجية الأميركي الذي ينتظر موافقة الكونغرس على تعيينه بذل جهوداً مضنية في زيارته الأخيرة إلى أنقرة لإقناع أردوغان بالالتحاق بخطة نشر قوات أوروبية وعربية وخليجية في شرق سورية تتغطى بواجهة من الكرد السوريين، إلى جانب نشر قوات أميركية في محيط قاعدة التنف وصولاً إلى الحدود مع العراق.. وهذا يسمح بتأسيس كانتونات سورية كبيرة، مقابل الدولة السورية، تقوم على أسس طائفية وعرقية وتؤسس لدول مستقلة.. فيحظى الجنوب بدولة حوران التي تضم محافظتي درعا وجبل العرب حتى الحدود مع الأردن، وكانتون آخر لعشيرة شمر يربط بين أرياف دير الزور والحدود مع العراق، وثالث للأكراد في الشمال الشرقي، إلى جانب كانتون الجيش «السوري الحر المزعوم» الذي ترعاه تركيا.
عاد بومبيو إلى واشنطن من دون أنّ يحصل على نتيجة واضحة، معتمداً على أنّ تركيا تشهد انتخابات رئاسية يحتاج فيها أردوغان إلى تأييد أصدقائها في الداخل وهم كثر.
لكن الأتراك يعرفون أهداف الأميركيين. ويعلمون أنّ أي دور لوحدات حماية الشعب الكردية في منبج السورية، يفسح المجال لتهديد وحدة تركيا.. لكن الاحتراف التركي يضيف أيضاً بأنها تهديد إضافي لوحدة سورية. ضمن هذه المحاولات التقى وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا في العاصمة موسكو لبحث إعادة تنشيط أستانة. وكان هناك اعتقاد بأن أنقرة قد تحاول الدفع باتجاه استيلاد مشروع تسوية يوازن بين التصعيد الأميركي الجديد وبين الواقعية الروسية ـ الإيرانية التي تصرّ على حل سياسي يعيد إلى سورية وحدة شعبها وأراضيها.
من الواضح هنا أنّ روسيا فهمت مدى الاستهداف الأميركي لدورها في سورية من خلال تجديد مشروع أميركي بآليات أوروبية وعربية وكردية.. الهدف واضح وهو التفتيت ومنع سيطرة روسيا على الحدود السورية ـ العراقية. وموسكو تعرف أيضاً أنّ وضع اليد الأميركية على آبار النفط والغاز شرق الفرات، إنما هو جزء من المشروع الأميركي لتفتيت سورية وتقزيم الدور الروسي وحصر الدور الإيراني في بعض حارات دمشق. وإلغاء الدور «الفلسطيني» لسورية. وهذا يعني على الفور إلغاء كاملاً للقضية الفلسطينية وخسارة كبيرة للجولان المحتل بذريعة أنّ الدولة التاريخية التي كان يشكل جزءاً منها تهاوت على مستوى الجغرافيا السياسية. وانفصلت عنه بكانتونات مستقلة حوران وجبل العرب .
لقد بدا واضحاً ماذا يريد الأميركيون من مشروعهم الجديد، الذي يشكل محاولة التفاهم مع الروس قاعدة هامة له وليس العكس كما يعتقد البعض. لأن الجانب المخفي أميركياً، هو التوصل لتفاهمات مع موسكو تتيح لها النفوذ الكامل في المناطق الموالية للدولة السورية.. لأن واشنطن تهيئ الأوضاع لنشوب صراعات روسية، إيرانية على النفوذ، وصراعات تركية ـ روسية في شمال سورية. فتسقط الهيئات الراعية والضامنة الملتئمة في إطار سوتشي وأستانة، لمصلحة إحياء مؤتمر جنيف وإنعاشه.. ألم يقل دي مستورا المندوب الدولي لسورية، وبعد مدة من سباته العميق أنّ الدولة السورية هي من عطّل جولات التفاوض في جنيف؟! هذا وسيط أم عضو في مؤتمر الائتلاف يمثّل فيه التنظيمات الإرهابية؟ لا شك في أنه يؤدي «دوره الأممي» برعاية أميركية كاملة تتسربل «بزي دبلوماسي أنيق».
إنما كيف جابه وزراء الخارجية الثلاثة المشروع الأميركي؟
أكد ظريف واوغلو ولافروف على حصرية الحل السياسي في الأزمة السورية.. وهذا وحده كفيل بكشف مخاطر المشروع الأميركي العسكري في شرق سورية والجنوب الذي يأتي في وقت يتراجع فيه النفوذ الأميركي بموازاة تقهقر المنظمات الإرهابية من الميدان السوري وبشكل شبه كامل.
هناك إذاً اتجاهات أميركية لتعديل موازين القوى بالقوة العسكرية ولمصلحة المهزومين، لأنها لو كانت مع معادية للإرهاب لما ذهبت في اتجاه تأسيس مشروع تقسيمي جديد. ودعت الأوروبيين والخليجيين إلى احتلال سورية عسكرياً من دون موافقة دولتها الشرعية العضو في الأمم المتحدة.
وبالعودة إلى طريقة مجابهة دول الأستانة للأميركيين، يجب تأكيد إصرارهم على القرار 2245 ونتائج سوتشي للحوار الوطني وعدم السماح بتقسيم سورية وإدانة الهجوم الثلاثي بأشكال مختلفة.
ولم يوفّر هؤلاء الوزراء دي مستورا لقوله إنّ أستانة استنفد دوره. فانتقدوه وطالبوه بحيادية كاملة، مؤكدين أنّ أستانة هو المرجعية الحصرية للحل السياسي في سورية. الأمر الذي يكشف عن استمرار التعارض الأميركي ـ التركي واتجاهه لأن يصبح تناقضاً كبيراً في مقبل الأيام.
هناك مقررات إضافية صدرت عن اجتماع لوزراء وتحتوي مواقف صارمة: تأكيد قدرة أستانة وسوتشي الحصرية على هندسة الأوضاع السياسية والجغرافية في الميدان السوري، والإصرار على القضاء على داعش والقاعدة ومتفرعاتها النصرة متفرعة من القاعدة ومثيلاتها وحزب العمال الكردستاني الذي تربط أنقرة وحدات حماية الشعب الكردية به.
أما كبرى المفاجآت في مؤتمر الوزراء فيتعلق برفضهم النهائي أي مشروع جديد يرمي إلى تحقيق واقع عسكري في الميدان، واضعاً ذرائع وهمية له حول «مكافحة الإرهاب»، وقتال «داعش». وهذا يشير بسهولة إلى المشروع الأميركي الجديد الساعي إلى تنظيم قوات أوروبية وعربية وكردية لاحتلال شرق الفرات من الجنوب عند الحدود مع العراق وحتى الشمال عند الحدود مع سورية.
لذلك اتهم الوزراء هذا المشروع بالسعي إلى تقويض سورية و»الدول المجاورة». وهما تركيا والعراق بكل تأكيد.. لأن واشنطن لا تستهدف الأردن أو «إسرائيل».
هذه المواقف تضع تركيا في مجابهة السياسات الأميركية الجديدة بشكل متصاعد. فالذعر مع المشروع الكردي المغطى أميركياً ليس مجرد سواس يصيب رجلاً مصاباً بأمراض نفسية.. بل يجسّد أبعاداً تاريخية حولت مشاريع صغيرة في السابق إلى دول بتآمرات غربية تاريخية. أليست فلسطين واحدة منها؟
إلاّ أنّ واشنطن تراهن على إمكانية التفاهمات البراجماتية مع الروس.. والتي يعتقدون أنها تؤدي تلقائياً إلى لجم الدور الإيراني.. ويعتقدون أنّ لتركيا من المصاعب ما يجعل دورها محدوداً وغير مستعد للذهاب بعيداً في مجابهة «الأميركي». فلدى أنقرة متاعب اقتصادية خطيرة، لا يمتلك إلاّ الأميركي سبل حلها «أوروبياً». وتعترضها أيضاً مصاعب من الطرح الكردي.. وسبل لجمه «أميركية» أيضاً. وتريد أنقرة دوراً إقليمياً، لا تعترض عليه واشنطن، لكنها تريد إرجاء موعده حتى الاستفادة الكاملة من دور الأكراد في تفتيت سورية. وهنا تكمن المشكلة.. لأن الإسهام في إنشاء كانتون كردي سوري هو السبيل إلى تدمير تركيا نفسها، التي تدرك مدى الخطر على مناطقها الكردية من الانفصال والحروب.
«أستانة» هي إذاً في مواجهة مع المشروع الأميركي الجديد. هناك محادثات سياسية في الكواليس.. لكن حقائق الميدان وصلابة الحلف الروسي ـ الإيراني كفيلة بإجهاض الهمسات الأميركية التي تريد توريط الأردن وتركيا وأوروبا والخليج من أجل استمرار الجيوبولتيك الأميركي على نفقة الدويلات الكرتونية في الخليج الحزين، الضائع حتى إشعار آخر في جلابيب حكامه، والدكتاتوريات المقنّعة بالدين.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/04/30