السعودية وإيران ولبنان إلى أين؟
طراد بن سعيد العمري
إذا سلمنا بأن إيران دولة لا تحترم حق الجوار، وأن لديها مشروع سياسي وطائفي، وتتدخل في الشئون الداخلية للدول العربية في لبنان وسوريا والعراق والبحرين واليمن، وأنها خلف كل الخلايا الشيطانية الإرهابية في الوطن العربي، بمعنى آخر أمست إيران الخصم اللدود للسعودية الذي يجب أن تتم مواجهته ووقف عبثه وتمدده في المنطقة العربية. لا بأس. تجادل إيران وساستها، في المقابل، بأمور مشابهة أو مغايرة ضد السعودية، من وجهة نظرها، كلها تصب في رفع الخصومة السياسية وأهمية المواجهة وسياسة “عض الأصابع”. حسناً، ثم ماذا؟ وهل تضطر الخصومة مع إيران إلى تأزم العلاقات مع الدول العربية الواحدة تلو الأخرى إلى أن ترتمي تلك الدول ومجتمعاتها في الحضن الإيراني أكثر وأكثر؟ أليس من الحكمة والعقل والمنطق السياسي أن تجلس السعودية وإيران على طاولة واحدة لنزع فتيل المواجهة التي ترهق الطرفين؟ ولماذا لا تسحب السعودية البساط من تحت أقدام الساسة في إيران وتحتوي كافة الدول العربية ومجتمعاتها المتهمة بالانحياز إلى الصف الإيراني؟
تأزم العلاقة السعودية مع لبنان، ووقف المساعدات العسكرية والأمنية للجيش والقوى الأمنية في لبنان، مؤشر خطير على وصول الأزمة بين السعودية وإيران إلى درجة حساسة، قد لا تحقق الأهداف السعودية المعلنة في عودة لبنان أو بعض الدول العربية إلى القرار العربي والإسلامي. الأزمة مع لبنان أعمق وأكبر من وقف مساعدات، فإذا عرفنا أسباب إيقاف المساعدات، فإننا لا نعرف مسوغات منحها في البداية. هنا تتطاير الأسئلة. وعلامات الإستفهام، وأهمها: هل ضمن سياسي لبناني بأن تقديم المساعدات العسكرية والأمنية سيغيّر من موازين القوى على الساحة اللبنانية؟ وهل سوء تقدير السياسي اللبناني لحجم وثقل التوازنات في لبنان أدى إلى المراجعة؟ فبالرغم مما يراه البعض ضعف أهمية وتأثير لبنان الدولة على أي من القرارات العربية والإسلامية إلا أن الواقع عكس ذلك تماماً. حزب الله مكون أساسي من مكونات لبنان سياسياً وعسكرياً وإجتماعياً، وهذا أمر تدركه السعودية وتعرف مئالاته منذ إتفاقية الطائف. فما هو الجديد في الأمر؟
إذا كان بعض الساسة في لبنان، الذين يحسبون على السعودية، أساءوا إدارة الحياة السياسية وتقدير الموقف وحجم التوازنات الداخلية، وساعدوا على تأزيم الوضع الداخلي، ولم ينجحوا في الإدارة الحزبية بشكل يحقق الأهداف والمصالح السعودية، فإن معاقبة أولئك الساسة والنأي عنهم أفضل من معاقبة شعب ودولة. فلبنان الدولة، أكبر من مؤسسات وتيارات كحزب الله أو تيار المستقبل أو التيار العوني، ومن أفراد وشخصيات مثل حسن نصر الله وسعد الحريري والجنرال عون، ولنا في التجربة السعودية مع سيء الذكر علي عبدالله صالح في اليمن خير دليل، وليس من الحكمة أن يفقد العرب والسعودية تحديداً لبنان لأي سبب كان مهما عظُم في مخيلتنا. من المثير في المسرح السياسي للشرق الأوسط، أن الدول التي تعتبر صغيرة حجماً هي أقوى تأثيراً وأعظم وزنا في سياسة وتوازنات المنطقة أكثر مما يظن البعض، مثل: لبنان والبحرين وقطر وغزة، وحتى إسرائيل.
يمكن لنا أن نعود إلى العام ٢٠٠٣م كتاريخ مفصلي لنعرف أسباب ازدياد النشاط السياسي والثقافي لإيران. فمع سقوط العراق تحت الاحتلال الأمريكي وخروج العراق من ثلاث منظومات أساسية في الشرق الأوسط: النظام الشرق أوسطي؛ النظام العربي؛ والنظام الخليجي، إرتبك الوضع السياسي والتوازن الإستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام والخليج بشكل خاص. فسقوط أنظمة عدد من الدول العربية في براثن الفوضى وما يسمى “الربيع العربي”، زاد الأمر تعقيداً مع تأزم الوضع في مصر وسوريا وبات العام ٢٠١١م تاريخ مفصلي أخر ومرحلة متقدمة من المواجهة بين السعودية وإيران بسبب تحرك”خط القوة” باتجاه الشرق نحو الخليج وتحوّله إلى الثنائية القطبية مع ما يتبعها من إستقطابات وحروب بالوكالة وصراع على النفوذ ومحاولة القوى العظمى تأجيج الصراع أكثر لتحقيق مكاسب أكبر. هنا نجد أن السعودية باتت وحيدة في حماية النظام العربي الذي فقد عناصر هامة مثل: العراق وسوريا ومصر، وفي حماية الخليج بعد انحسار دور العراق. ولذا هي بحاجة إلى إستراتيجية تقلل الخسائر وتعظّم المنافع.
يرصد بعض المراقبين الممارسة السياسية لكل من السعودية وإيران في المنطقة فيما بعد العام ٢٠٠٣م (احتلال العراق). ويخلص أولئك إلى أن السعودية تنتهج في سياستها الخارجية التواصل ومد الجسور عبر الحكام والحكومات وتستثمر في القيادات السياسية المؤثرة، بينما تُمارس إيران سياستها عبر الأحزاب والمؤسسات والتجمعات الشعبية والمجتمعية. إذاً نحن أمام أسلوبين ومدرستين مختلفتين في الممارسة السياسية: السعودية تنتهج أسلوب من “أعلى إلى الأسفل” Top to Bottom، بينما تنتهج إيران أسلوب معاكس يتجه من “الأسفل إلى الأعلى” Bottom to Top. لا يمكن الجزم بأي الأسلوبين أو المدرستين أفضل، إلا بدراسة كل دولة ومجتمع على حده وخصوصاً في بيئة وإجراءات وخطوات اتخاذ القرار السياسي. الدول التي يمثل الرأي الأحادي مصدر القرار السياسي مثل كوريا الشمالية، على سبيل المثال، يكون أسلوب الأعلى إلى الأسفل، أي عبر الحاكم أو الحكومة أفضل وأسرع. بينما العكس في الدول والحكومات التي تقوم على الصوت الشعبي والمجتمعي والمؤسساتي والحزبي مثل بعض الدول الغربية الديموقراطية.
في عالمنا العربي لازال القرار السياسي بيد الحاكم والحكومات، مع بعض الاستثناءات بُعيد تسونامي “الربيع العربي” الذي بدّل في العلاقة بين الدولة والمجتمع قليلا، ولو بشكل مؤقت. هذا ما عملت عليه إيران بشكل حثيث منذ العام ٢٠٠٣م في العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن ومناطق أخرى. استغلت إيران المشتركات الثقافية لاستنهاض الأقليات أو بعض المجتمعات التي تعتنق المذهب الشيعي، وكان نجاح إيران يتذبذب بحسب حجم المظلومية التي تشعر بها تلك الأقليات أو المجتمعات الشيعية في بيئتها المحلية. المثير، أن استنهاض تلك الأقليات أو المجتمعات المحلية في الدول العربية لم يكن لمنحهم حقوق مواطنة حُجبت أو مُنعت، بل كان يتجه نحو المطالَب السياسية في دول تعتبر تلك المطالب “محرمات”، فازدادت الفوضى وعجزت بعض تلك الدول العربية في احتواء تلك المطالب السياسية. وهنا يكمن سر الغموض والنجاح في نفس الوقت وبنفس القدر، وهو فهم العلاقة بين كل دولة ومكونات مجتمعها وأين تميل كفة التأثير تجاه الحكومة أو المجتمع، لتحديد أسلوب التواصل.
نعود إلى السعودية ودورها المستجد، وحملها الثقيل، وأهدافها في حماية النظام العربي، ومنع إيران من قضم الدول والمجتمعات العربية واحدة تلو أخرى، ومصادرة القرار العربي، الذي يقلق البعض في مقدمتهم السعودية. هنا نجد أن صياغة إستراتيجية جديدة تعتمد على الاحتواء للأقليات والمجتمعات المحلية التابعة للمذهب الشيعي والمتعاطفة مع إيران سياسياً أو ثقافياً وخلق جسور حوار معهم هو الأسلوب الأفضل. فمثلما وجدت مجاميع الأخوان المسلمين السنية سنداً ومرجعية في تركيا ومرشدها أردوغان، وجدت المجاميع الشيعية سنداً ومرجعية في إيران ومرشدها خامنائي. ضعف العرب واهتزاز مصداقية بعض الحكام يضاف إلى ذلك غياب إصلاحات سياسية حقيقية؛ وتخلف التنمية؛ وضعف التعليم؛ وقلة فرص العمل؛ وازدياد القهر؛ وغياب العدالة الإجتماعية، أدى بتلك المجاميع إلى الاتجاه إلى قوى إقليمية خارج الوطن العربي كسند ومرجعية. وهنا يتمثل الدور السعودي في أهمية معالجة الانفصام الإجتماعي والمجتمعي والسياسي للدول العربية أولاً وقبل كل شيء، وذلك بانتهاج سياسة وإستراتيجية مضادة تجمع مابين الأسلوبين والمدرستين التي ذكرناها أعلاه.
نقترح على السعودية في هذا الشأن، كدولة قيادية للعالم العربي، أن تبدأ خطة من ثلاثة مسارات أو محاور: (١) تشكيل وفد من عدد محدود من وزراء الخارجية لدول معروفة باعتدالها يرافقهم عدد من الحكماء لبدء حوار مع كافة المكونات ذات الميل الثقافي أو السياسي تجاه الخارج إيران أو تركيا واحتوائهم ومحاولة إعادتهم إلى التناسق مع دولهم والمنظومة العربية؛ (٢) تشكيل وفد وزاري عربي للتباحث مع إيران ووضع الخطوط السياسية والإستراتيجية الحمراء لمنع المواجهة مع الدولة الجارة وتحديد فيما إذا كانت أهدافها السياسية متناسقة مع تصريحاتها الإعلامية حول الرغبة في التعايش على مبدأ حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى؛ (٣) تشكيل مجموعة عمل عربية من أساتذة الجامعات وأعضاء مراكز البحث العربية لمراجعة شاملة لـ “جامعة الدول العربية”، هذه المنظمة العجوز والأقدم في العالم، حتى لو أدى الأمر لتجميد نشاطها حقبة من الزمن. المهم، أن مهمة الوفود في المسارين (١+٢) ليست معنية بحل نزاعات قائمة مثل اليمن أو سوريا فهذه النزاعات باتت ملف دولي يتطلب تدخل خارجي من دول وقوى عالمية ذات مصالح متضاربة أو متضادة، كما أن تلك النزاعات نتيجة وليس سبب.
أخيراً، السعودية اليوم في مركز قيادي وتضطلع بدور تاريخي يتطلب منها تنويع مصادر نفوذها السياسي خارجياً، مثل ما تعمل على تنويع مصادر دخلها محلياً. الاعتماد على الأشخاص والأفراد والاستثمار فيهم وفي الأنظمة أثبت عدم نجاعته، فالأفراد زائلون أما البقاء فهو للدول والشعوب. كما أن الحكمة الإستراتيجية تقتضي “تقليل الأعداء” ليس على مستوى الدول فقط، بل على مستوى المجموعات والأقليات والأحزاب وكافة المكونات المجتمعية. أما جلوس السعودية وإيران على طاولة الحوار فذلك أمر حتمي مهما طال الزمن، مثل ما تفعل روسيا وأمريكا على الرغم من الخصومة السياسية التاريخية المستحكمة بين القوتين العظميين. ختاماً، الخشية كل الخشية، أنه ريثما تقتنع السعودية بالحوار مع إيران، يتم فقدان أو ذوبان الدول العربية وشعوبها واحدة تلو الأخرى، التي تسعى السعودية لحفظها وحمايتها، حينها تكون السعودية قدمت لإيران أكبر مساعدة على تحقيق أهدافها وخسرنا الشعوب العربية.
صحيفة أنحاء
أضيف بتاريخ :2016/02/23