هيكل وإعادة كتابة التاريخ
يوسف مكي
رحل عنا محمد حسنين هيكل... الكاتب الذي ملأ الدنيا، وكان الشغل الشاغل لخصومه ومحبيه. رحل إلى الرفيق الأعلى عن عمر ناهز ثلاثة وتسعين عاماً، عاصر خلالها أحداثاً جساماً، كرس جلّ عمره، لقراءتها وتحليلها. تعلم منها الكثير، وعلم عنها لجيله ولأجيال المستقبل ما هو أكثر. اجتهد وأصاب وأخطأ شأنه في ذلك شأن غيره من الكبار الذين تصدّوا لتحليل تاريخ امتد لأكثر من ستين عاماً من الإبداع والعطاء. لكن بوصلته لم تخذله أبداً.
لم يبرح هيكل، في أحلك اللحظات التي عاشتها الأمة العربية، إيمانه بقدَرها وبحقها في النهضة والتقدم والوحدة. ظل هذا الإيمان، عقيدته التي لا يتزحزح عنها طيلة حياته. عاصر هزائم ونكسات وانتصارات وصموداً. وبقي شامخاً كالطود، لا تلين له قناة. ولم يهرب من الميدان، كما فعل غيره، ولم تغرِهِ حياة المنافي، بل بقي متمسكاً بمعشوقته، أرض الكنانة، لا يكتب إلا منها وعنها، وبما يقربها من حلمها اللذيذ، في أن تأخذ مكانها اللائق، كقلعة كبرى من قلاع الأمة الحصينة، وكقلب نابض معبر عن حركتها. وحين يكتب عن غيرها، وقد كتب كثيراً، تظل باستمرار بوصلته، ومحط ترحاله، وسوحه في هياكل الفكر والسياسة.
بدايته، كانت وسط نيران الحرب العالمية الثانية، التي كتب عنها... وهوايته دائماً ركوب الخطر. إذ كانت بدايته مراسلاً في ميادين الحرب الكونية، وهو لما يزل يافعاً في ريعان شبابه. وليعاصر لاحقاً نكبة فلسطين، ثم ليلتقي لاحقاً عناصر الجيش المصري، المحاصرين في الفالوجة، ويتعرف من هناك إلى جمال عبدالناصر، الذي كان في حينها، يتهيأ لصناعة تاريخ مصر الحديث، الذي بدأ مع ثورة (23 يوليو/ تموز 1952).
وكانت ثورة يوليو، محطة صعوده الأسطوري إلى عالم الصحافة، إذ تربع منذ ذلك الحين، على عرشها، ليصبح عملاقها وعميدها حتى رحيله إلى الرفيق الأعلى. وتسلم رئاسة تحرير صحيفة «الأهرام»، طيلة عهد الرئيس عبدالناصر، إذ تحولت تحت إدارته إلى الصحيفة العربية الأولى، وإلى واحدة من كبريات الصحف العالمية.
رافق مسيرة عبدالناصر، منذ اندلاع شرارة الثورة، عاصر أفراحه وأحزانه، انتصاراته ونكباته ونكساته. وكتب بكثافة عن العدوان الثلاثي الغاشم على مصر 1956، وهلل للانتصار ودحر العدوان، كما هلل لكسر احتكار السلاح، وتأميم قناة السويس، وبناء السد العالي، ولخطط التنمية الانفجارية التي شهدتها مصر، في خططها الخمسية، التي نقلت مصر، إلى دولة رائدة، في القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وأسهم في التنظير لعدم الانحياز، وللحياد الإيجابي. وخلال تلك الحقبة، التقى زعماء الكتلة الجديدة، وتحدث إليهم وكتب عنهم. التقى تيتو وسوكارنو وشوآن لاي ونهرو ونكروما وسيكوتوري وكثيراً غيرهم.
كرّس قلمه، للدفاع عن حركات التحرر الوطني، في آسيا وإفريقيا، ورافق مسيرة دعم مصر، واحتضانها للثورة الجزائرية، وصحب أبطالها التاريخيين، وكان هو الراعي للقاء الأول بين الراحلين: الرئيس جمال عبدالناصر، قائد ثورة مصر، وياسر عرفات، الثوري الفلسطيني، الذي أشعل وميض الأمل، في الليل العربي الحالك، بعد نكسة حزيران العام 1967.
وكان من الشهود القلائل، على دور مصر في نصرة حركات التحرر في القارة السوداء، فرح لانتصارات تلك الثورات، وحزن كثيراً للمآلات المأساوية لبعض تجاربها، وكان من أوائل من رثوا بطل الكونغو الوطني الباسل، باتريس لومومبا.
عاش النكسة بكل دقائقها ولحظاتها، وكتب بيان الاستقالة، للرئيس عبدالناصر، كما كتب نعيه عند رحيله، العام 1970، بعد منازلة كبرى في حرب الاستنزاف ضد الكيان الغاصب. وصاغ البيان العسكري الأول لمعركة العبور.
وكان بهاؤه وعطاؤه كلاهما قد تجلّى بوضوح، قلّ له نظير، بعد رحيل رفيق دربه الرئيس عبدالناصر، إذ كانت البداية مع كتابه «لمصر لا لعبدالناصر»، لتتبعها عشرات الكتب التي أثرت المكتبة العربية. كتب خلالها عن مصر والوطن العربي والعالم. وترك بصماته واضحة في كتابة التاريخ المعاصر، على رغم أنه رفض طيلة حياته لقب المؤرخ، وتمسك بلقب «الجورنالجي».
أرخ لثورة 23 يوليو في كتابه، سقوط نظام، لماذا كانت ثورة 23 يوليو لازمة؟ كما كتب في الحرب، إذ نشر ثلاثة مجلدات، تحت عنوان حرب الثلاثين عاماً، سجلت تاريخ الصراع على المنطقة، منذ العام 1952 - 1982، تناولت أزمة السويس وسنوات الغليان، والانفجار وحرب أكتوبر، والغزو «الإسرائيلي» لمدينة بيروت.
انتقد مشاريع السلام، باعتبارها مشاريع أخذت من حصة مصر، وعزلتها عن محيطها العربي، وألغت دورها التاريخي المحتوم. ناقش إدارة الرئيس السادات لمعركة العبور وثغرة الدفرسوار، وفصل القوات. إذ كتب «عند مفترق الطرق ماذا حدث فيها وماذا حدث بعهدها». وتسببت انتقاداته الحادة للتسوية، في قطع أواصر العلاقة بينه وبين الرئيس السادات، العلاقة التي امتدت قرابة خمسة وعشرين عاماً، لينتهي الأمر به إلى الاعتقال. وليصدر مرافعته الشهيرة، حول هذا الموضوع، في كتابه «وقائع تحقيق سياسي». ليتبعه كتاب «خريف الغضب»، الذي كتب فيه سيرة الرئيس السادات، من وجهة نظره. كما كتب «آفاق الثمانينات».
ناقش المشروع الصهيوني، والوثائق السرية المتعلقة بنهجه التوسعي، وطبيعة الاستجابة العربية، لهذا المشروع في كتابه «العروش والجيوش قراءة في يوميات الحرب»، وفي كتابه: «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل الأسطورة والإمبراطورية والدولة اليهودية»، و»عواصف الحرب وعواصف السلام»، كما كتب «السلام المستحيل والديمقراطية الغائبة».
تناول قضايا عصره، في عشرات الكتب، منها على سبيل المثال لا الحصر، «بين الصحافة والسياسة» وعن الثورة الإيرانية، في «مدافع آيات الله»، وعن الجهاد في أفغانستان «من نيويورك إلى كابل»، وعن أزمة الخليج «أوهام القوة وأوهام النصر».
وفي مطلع هذا القرن، كانت بدايته مع كتاب «العربي التائه»، و»الإمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق». «وكلام في السياسة»، وكتب أخرى كثيرة، ليس لهذه المقالة أن تقوم بحصرها.
لقد كان هيكل كاتباً مجيداً للتاريخ، أرّخ بأسلوبه الرشيق، السهل الممتنع، لمرحلة من أخطر مراحل التاريخ العربي، ورحل عنا في قمة عطائه، رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته، و«إنا لله وإنا إليه راجعون».
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/02/26