في مواجهة التأويل الممنوع والطاعة المطلقة لأولي الأمر: محيي الدين بن عربي معاصرنا
علي أحمد الديري
في مواجهة التأويل الممنوع والطاعة المطلقة لأولي الأمر: محيي الدين بن عربي معاصرنا أحد المشاهد السوريالية التي لازمتني في عدّة أشكال وصور وأنا أكتب هذا البحث: أحدهم يربط هذا الكتاب بذيل كلب ضالّ، ويُطلقه في أحد الأسواق على غير هدى. رحت أتبادل مع أصدقائي المقربين هذا المشهد بعدة سيناريوات ممكنة، وبين الجد والهزل قدمت مقترحات لإخراج تصوير درامي لهذا المشهد.
من حقكم أن تتساءلوا عن علاقة هذا المشهد بموضوع الكتاب، لأجيبكم عن ذلك، دعونا نقرأ هذه الحكاية.
ينقل لنا ابن حجر العسقلاني (773 هـ - 852 هـ) الملقب بـ«أمير المؤمنين» في الحديث واقعة عن أحد العلماء الأحناف «كان يتعصب للحنفية ويحب أهل الحديث مع ذلك وينوّه بهم ويتعصب لأهل السنّة ويكثر الحط على ابن العربي وغيره من متصوفي الفلاسفة، وبالغ في ذلك حتى صار يحرق ما يقدر عليه من كتب ابن العربي وربط مرة كتاب الفصوص بذنب كلب، وصارت له بذلك سوق نافقة [رائجة] عند جمع كثير، وقام عليه جماعة من أضداده فما بالى بهم»[1].
سيطر عليّ هذا المشهد طوال فترة كتابتي هذا الكتاب، تخيلت ابن عربي[2] وهو يشاهد كتابه (فصوص الحِكَم) يُجر في الأسواق، مربوطاً بذيل كلب ضالّ، إمعاناً في الإهانة والاستحقار، وتعبيراً عن الانحراف المستحيل الاستقامة. كأني به يجيب بالجواب نفسه الذي أجاب به الشخص الذي شتمه وسبّه يوماً وهو يركض وراءه، قال إنه ما يسبني، هذا تصورت له صفات ذميمة فهو يسب تلك الصفات، ولست موصوفاً بها.
وربما كان يستعيد مشهد جنازة الفيلسوف ابن رشد وهي محمولة من مراكش بالمغرب إلى قرطبة بالأندلس، وقد وُضع التابوت الذي فيه جسده على جانب من الدابة وجعلت كتبه تعادله من الجانب الآخر، لقد ظل ابن عربي مشدوداً إلى هذا المشهد وهو يفكر في ما سيؤول إليه جسده وكتبه، وقال:
هذا الإمام وهذه أعماله
يا ليت شعري هل أتت آماله
لقد ذهبت آمال ابن رشد غرباً حيث اتجهت الدابة وهي تحمل كتبه وجسده، هناك نمت وكبرت وأعطت ما فيها من أنوار معرفية وعقلانية.
يمكننا أن نرد السؤال نفسه على ابن عربي٬ هل أتت أعماله (كتبه) آماله؟ آماله التي ظل يرسمها في شكل دائرة وجودية واحدة تضم البشر بمعتقداتهم المختلفة وشرائعهم وأديانهم وتجلياتهم وأحوالهم.
من قلب أسواق القاهرة، يخبرنا الإمام البقاعي صاحب (مصرع التصوف) أن كتب ابن عربي لا تظهر في بلاد الإسلام، ولا توجد في مصر والإسكندرية، ولا يقدر أحد أن يتظاهر بها، وأنها متى وُجدت مع أحد أُخذت منه وأحرقت، وأوذي، فإن ظهر أنه يعتقدها قُتل.
وينقل لنا (السخاوي) المصري أنه في عام (790 هـ) في أيام الملك الظاهر برقوق، برز المرسوم السلطاني إلى شيخ مدرسة بين القصرين الإمام علاء الدين السيرامي بألا يُمَكِّن أحداً يسكن في المدرسة من الاشتغال في مثل هذه الكتب، ولا في علوم الفلاسفة والأوائل مثل: الحكمة، والمنطق، والهيئة ونحو ذلك، ولا يدع في المدرسة كتاباً من كتبهم لا في خزانتها ولا عند أحدٍ من أهلها[3].
يبدو أن القاهرة في زمن المماليك صارت عاصمة لتكفير ابن عربي، من مساجدها ومدارسها تعلن أمثال هذه الفتاوى: هؤلاء الاتحادية فرؤوسهم أئمةُ كفر يجب قتلهم، وتجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذبَّ عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظًّمَ كتبهم، أو عُرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر عنهم بأن هذا الكلام لا يُدْرَى ما هو[4].
إنه وسط قاهرة الأزهر التي بناها الفاطميون، وملأوها عمارة وجمالاً ومعرفة وعلماً، في الوقت الذي كانت فيه كتب الفرق والملل في بغداد تملأ الصفحات باسم الخليفة العباسي تكفيراً للفاطميين واستباحة لدمائهم وأعراضهم وأموالهم. لقد بنت هذه الكتب وفتاوى الفقهاء عمارة اسمنتية متينة متوحشة، كانت تلقي من شاهقها كل من تسول له عقيدته الخروج على مسلماتهم التي تم تحديدها بصرامة سيف الخليفة المسلول، لقد أُسقط ابن عربي من العمارة ذاتها، وحُوكم بالسيف نفسه.
لقد شرح هؤلاء مفهوم السنة واحتكروه، على أنه منع السؤال ومصادرة التأويل، والتسليم بظواهر النصوص، والطاعة المطلقة لأولي الأمر.
بنى ابن عربي عمارة جديدة للسنة، أسكن فيها الجميع من دون أن يلقي بأحد من شاهقها بحجة التكفير والتضليل، لقد تكلم ابن عربي باسم الله الرحمن وباسم رحمته، بنى معماراً متسعاً للسنة، قدمها في دائرة وجود متعددة الصور، الرحمة مركزها والمحبة شرط معرفتها، والقبول بإله معتقدات الآخرين مبدأها. هذه دائرة وحدة الوجود، فيها الله مع جميع خلقه يرحمهم ويحبهم ويقبل بهم، واعتبرها سنّة الله التكوينية في الوجود.
يسعى هذا الكتاب إلى أن يقدم (وحدة الوجود) خارج جدل المباحث الكلامية والعقائدية، باعتبارها تأويلاً لمفهوم (السنة) الذي تمّ تأميم معناه مبكراً.
لقد صاغ خطاب العقائد والفرق والملل[5] هذا المفهوم على أساس التكفير والتضليل والتقتيل ضد الخارجين على سلطة الخليفة السياسي. في المقابل، فتح ابن عربي السؤال الذي أغلقه هذا الخطاب، ومارس التأويل الذي حظره، وحرّر أو تصرّف في مجازات الألوهية الذي جمده وصنمه أرباب هذا الخطاب في قوالب قاسية. لقد فتح ابن عربي بهذا التأويل (السنة) أو أعاد شرحها، لتستوعب معتقدات الفرق المختلفة، ضمن وحدة إنسانية واحدة.
النص مقدمة كتابه الجديد «لماذا نكفّر؟ ــــ ابن عربي من عنف الأسماء إلى نفس الرحمن» الصادر عن «دار التنوير» في بيروت
الهوامش:
[1] ابن حجر العسقلاني، إنباء الغمر بأبناء العمر، ص 228.
[2] ولد في مرسية في الأندلس في شهر رمضان عام 558 هـ/ 1164م. وتوفي في دمشق عام 638هـ/ 1240م، ودفن في سفح جبل قاسيون.
[3] انظر: دغش العجمي، ابن عربي عقيدته وموقف علماء المسلمين منه، ص 573-574.
[4] شمس الدين محمد السخاوي، القولُ الْمُنْبِي عن ترجمة ابن العَربي، ص 199.
[5] انظر مثلاً: (شرح السنّة) للبربهاري، (التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين) للأسفراييني، (الإبانة الكبرى أو الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة) لابن بطة العكبري، (الفرق بين الفرق) للبغدادي، (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم، (فتاوى ابن تيمية) لابن تيمية.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/01/25