معاهدة الصواريخ أم سباق التسلح معضلة التوازن الدولي
سماهر الخطيب
ارتفع منسوب القلق الغربي من انهيار معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى باعتبارها أساس الحد من التسلح، لكونها خلصت أوروبا من الصواريخ النووية المنشورة على أراضيها، الأمر الذي من الممكن أن يؤدي إلى «سباق تسلّح جديد» إذا ما انسحبت منها واشنطن.
وهذا الانسحاب من شأنه أن يولّد مخاوف من قيام الولايات المتحدة الأميركية بنشر جيل جديد من الصواريخ النووية في العالم بحجة مواجهة تطوير الأسلحة الروسية عقب اتهامها بانتهاك الاتفاقيات وتطوير أسلحة استراتيجية ورؤوس نووية
وفي كواليس الدولة العميقة والنيات الأميركية، غايات جيوسياسية أبعد من تلك الاستراتيجية بحيث إن قرار الانسحاب من الاتفاقية وإنتاج صواريخ جديدة متوسطة المدى ليس فقط في سياق «سباق تسلح جديد» إنما يصبّ في محاولات الإدارة الأميركية، احتواء الدول الأوروبية وزعزعة العلاقات مع موسكو وبكين من جهة وإعادة ضبط الخريطة العالمية وفق «الأنا الأميركية» بعد سلسلة إجراءات وقرارات تجارية وقانونية دولية بدءاً من الانسحاب من الاتفاقيات التي تحدّ من قدرة واشنطن «الإمبراطورية» انتهاء بإشعال حرب تجارية وفرض رسوم تجارية على واردات الحلفاء قبل الأعداء..
وخاصة أن أكثر ما يقلق العقل الأميركي ويشل قدرته على التفكير هو تقارب روسي أوروبي يعيدها إلى ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، وما تلك التصريحات الأميركية حول انتهاكات روسية مزعومة لمعاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، سوى حجة لتجييش الحلفاء الأوربيين ضدّ «البعبع» الروسي في إشارة منها إلى أنه تهديد بانهيار نظام الحدّ من التسلح.
فالولايات المتحدة، من خلال استراتيجيتها النووية، ستفعل كل شيء لجعلها قيد التنفيذ في أوروبا أولاً بعد فشل استراتيجيتها في المنطقة، وبالتالي تسعى لإعادة ضبط أوروبا وفق التقويم الأميركي مستفيدة من نفوذها داخل حلف الناتو للدفع بمشروعها «النووي» ما يجعلها وفق حساباتها تغيّر ميزان القوى وفق نموذج «القرن الأميركي».
إنما في المقلب الآخر، عندما تستخدم روسيا والصين «الفيتو» المزدوج ضد المخططات الأميركية في مجلس الأمن الدولي، فإنّ على أميركا وحلفائها إدراك أن العالم تغيّر وبشكل جذري.
بحيث تمتلك روسيا والصين فرصاً لإفشال ذلك المخطط وإسقاط تلك الاستراتيجية فالصين باستراتيجيتها التنموية والاقتصادية حققت نتائج فعالة في الآونة الأخيرة في وتيرة متسارعة في مواجهة تلك «الأنا الأميركية».
كذلك روسيا من خلال إدارتها ملفات المنطقة استطاعت تسجيل أهداف لا يُحسَد عليها «المرمى» الأميركي، وزيادة في إجراءات درء هذه المخاطر الأميركية تمتلك روسيا الكثير من الأوراق في مواجهة «اللعبة الدولية» المحبوكة أميركياً فقد تتجه روسيا لإعلان نشر صواريخ بالستية متوسطة المدى في دول عدة حرجة للموقف الأميركي كسورية مثلاً ولربما في كوبا أو القرم أو دونباس..
ولعلّ تأكيد الرئيس بوتين بأنه «سيردّ على أي هجوم نووي تتعرض له بلاده وأي من حلفائها»، تحذير واضح للرئيس ترامب من الإقدام على أي «حماقة» عسكرية.
وبالتالي تمتلك موسكو تدابير جوابية وإجرائية عسكرية وتكنولوجية وجيبولتيكية يمكنها التلويح بها ووضعها موضع التنفيذ رداً على الإجراءات الأميركية «الاستفزازية».
كأننا بتنا اليوم في إعادة لسيناريو سباق التسلّح إنما بصيغة مغايرة عبر افتعال بؤر الصراع وتأجيجها تبعاً للمصالح المتنافسة في سياق هجوم منسق على الغلاف الجيوبولتيكي لكلتا الدولتين.
وفيما يستعر التوهج الاستراتيجي الأميركي يرافقه لهيب التأهب الروسي لمواجهته، فروسيا بوتين ليست روسيا غورباتشوف، صاحِب البيروسترويكا «الانهزامية»، ولا هي روسيا يلتسين. روسيا اليوم تقول «لا» مدوية لـ»الغطرسة» الأميركية، وتؤكد أن مرحلة تفردها بالعالم قد انتهت إلى غير رجعة.
كما أنّ روسيا استعادت معظم عناصر قوتها، وأصبحت قوة عظمى مرهوبة الجانب مجدداً، ويتزعمها رئيس استطاع أن يضعها على خريطة العالم مجدداً في المكان الذي تستحقّ، وخطاباته القوية وغير المسبوقة، تعكس ثقة بالنفس تستند إلى قدرات عسكرية متطوّرة جداً يشكل تدشيناً لمرحلة جديدة عنوانها «الريادة العالمية».
أمّا ما يوحي بإمكانية انتقال الحرب الباردة إلى أُخرى ساخنة، فننطلق هنا من ترجيحات، تشير إلى احتمال تعرض أحد حلفاء روسيا إلى هجوم عسكري.
فالرئيس ترامب يؤجج التوتر في العالم، ما يجعل احتمالات الصدام والبدء بسباق تسلح جديد، وإشعال بؤر الصراع واردة، إن كان في المنطقة أو في مناطق أخرى من العالم، إن كانت مباشرة أو بالوكالة عبر أدوات تهرع أميركا لنجدتها مثلما كان التاريخ الأميركي حافلاً بالاعتماد على الأدوات لنيل الأهداف المرجوة.
كما بدأ ترامب بخطوات ملموسة في تصنيع صواريخ بالستية متوسطة المدى بعد أن أظهرت ميزانية البنتاغون اعتمادات خصصت للعمل على تصنيع تلك الصواريخ، ناهيك عن كون واشنطن تمتلك هذه الصواريخ فعلياً والتي تستخدمها كأهداف لتطوير مضادات لها.
ولا ننسى أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقع في أيلول المنصرم، على مشروع قانون الدفاع الوطني، وبذلك وافق على تصميم صواريخ تنتهك بنود معاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى. ونشره عناصر منظومة الدرع الصاروخية على الأراضي الأميركية، وفي أوروبا وفي المياه بالقرب من السواحل الروسية، بالإضافة إلى خططها لنشر صواريخ في اليابان وكوريا الجنوبية، جميع تلك الإجراءات تدقّ ناقوس الخطر..
وفي سياق برنامج الناتو لتقاسم الأسلحة النووية نشرت واشنطن ما يفوق 200 من القنابل النووية الأميركية «بي 61»، في ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وهولندا وتركيا ودول أوروبية أخرى.
ففي أوكرانيا مثلاً حيث باتت صواريخ وأسلحة وجنود الناتو على الحدود في مسعى لحصار عسكري يرافق الحصار الاقتصادي، بذلك لا تعود الحرب الباردة فقط، بل حرب نصف ساخنة، وهذا ما اعتبرته موسكو تهديداً لأمنها القومي.
ويأتي كشف بوتين عن «تطوير بلاده صاروخاً باليستياً جديداً عابراً للقارات من الصعب على الأنظمة المضادة للصواريخ اعتراضه ويمكنه أن يصل إلى أي مكان في العالم تقريباً» رداً على تلك المحاولة واستكمالاً لسيناريو «الردع الجيوبولتيكي النووي».
حيث إنّ روسيا هي في المنطقة «الأوراسية» ما يعطيها ميزة دفاعية، في حين لا تتمتع القارة الأميركية الشمالية بتلك الميزة الدفاعية الأمر الذي سيعرضها لتصدّع إذا تلقت ضربة نووية روسية مضادة.
وهذا ما سيدفع واشنطن لاحتساب خطواتها وتفعيل براغمياتها بإثارة الخطر دون تحديد مكامنه الروسية وهو «التفوق التكنولوجي والعسكري»..
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/02/08