دور العسكر في التحوّلات لا يقتصر على العرب
أحمد فال السباعي
بدأت الثورة بانقلاب عسكري لمجموعة صغيرة من الضباط الرافضين للإستبداد العسكري الفاشي، وللإستعمار البرتغالي لأفريقيا والهند، وللطبقية التي أفقرت المجتمع، لتنطلق بعدها ثورة القرنفل في ربيع لشبونة الشهير. تآلف الشيوعيون والإشتراكيون والقوميون والعسكريون في حربهم ضد الثورة المضادّة التي سُرعان ما أرادت استجماع قواها في مناخ شديد الحماسة والتوتّر.
في مثل هذه الأيام وقبل ما يزيد عن خمس وأربعين سنة شهدت البرتغال واحدة من أسلم الثورات التي عرفها العالم الحديث، والتي أنهت عصر الديكتاتورية في أوروبا الغربية. بدأت الثورة بانقلاب عسكري لمجموعة صغيرة من الضباط الرافضين للإستبداد العسكري الفاشي، وللإستعمار البرتغالي لأفريقيا والهند، وللطبقية التي أفقرت المجتمع، لتنطلق بعدها ثورة القرنفل في ربيع لشبونة الشهير. تآلف الشيوعيون والإشتراكيون والقوميون والعسكريون في حربهم ضد الثورة المضادّة التي سُرعان ما أرادت استجماع قواها في مناخ شديد الحماسة والتوتّر.
كان دور العسكر حاسماً في إنتقال البرتغال نحو الديمقراطية. في عالمنا العربي اليوم خروج سياسي واضح للجيوش في اللعبة السياسية. أجبر الربيع العربي، وما بعده، الكثير من المؤسّسات العسكرية على إظهار نفسها بشكلٍ واضحٍ كطرفٍ سياسي مُتحكّم إلى حد كبير في مجريات الواقع السياسي وتحوّلاته. إلى أين يسير العسكر في الحراك العربي الجديد، وإلى أين يسير عرب القرن الواحد والعشرين؟
- نماذج ناجحة وخيارات متعدّدة:
في ثورة القرنفل البرتغالية وفي إنتقال أندونيسيا السلمي وفي تحوّلات تركيا المعاصرة، كان القاسم المشترك الأساسي الذي انبنى عليه تحوّل الدور السياسي للعسكر هو تحوّل طبيعة الشرعية التي تتأسّس عليها وظيفة الجيش وأدواره داخل الدولة والمجتمع.
في البرتغال انطلقت الثورة من انقسام داخل العسكر قاده ضباط صغار يؤمنون بمأسسة الجيش والإنتقال من نظام يعتمد على الفاشية والعنف إلى نظام ديمقراطي شعبي. لقد لعبت القراءة النقدية لقادة كبار في الجيش كسبينولا وغيرهم دوراً مهماً في مراجعة داخلية لدور قوّة التغلّب العسكري داخل دولة تعاني من الفقر ومن سوء توزيع الثروات ومن سياسة استعمارية عنيفة ومتوحّشة تجاه حركات التحرّر الوطني في العالم الثالث.
أظهرت أزمة النمور الآسيوية سنة 1997 ما ظلّ خافياً عدّة عقود من نظام الإستبداد، وفيما كانت أندونيسيا تعيش واحدة من أسوأ أزماتها الإقتصادية على الإطلاق، تمت إعادة إنتخاب الجنرال سوهارتو من جديد، مما خلّف استياء كبيراً في أوساط الطلبة والمثقّفين ووسائل الإعلام التي شنّت حملات واسعة ضد الإعلام الرسمي الذي ساند الدكتاتور وضد رموز الفساد. انضم الإسلاميون إلى دعاة الديمقراطية وانشق الجيش في موقفه تجاه المتظاهرين السلميين، لينتهي النظام باستقالة المارشال وبدء مرحلة انتقالية جديدة. وكما يرى الرئيس السابق حبيبي فرغم وجود 500 عرقية مختلفة في بلد إسلامي كأندونيسيا، ووجود نظام تسلّطي عسكري ، فإن الإنتقال التدريجي للسلطة أثبت فعّاليته في تحقيق التحوّل نحو الديمقراطية من خلال تعديل الدستور وبناء المؤسّسات وتحديد دور العسكر وتحديد مُدَد "خدمة الرئيس". لقد كانت الأزمة الاقتصادية العامل الأساس في خروج الناس إلى الشوارع.
في تركيا، وبعد انقلاب 1980 الذي قاده الجنرال أرفين كنعان، تمّت مأسسة دور العسكر من خلال المجلس الأعلى للأمن القومي الذي ظلّ أزيد من ثلاثين سنة مُتحكّماً في سياسات الدولة. لقد اعتبر الجيش التركي نفسه مسؤولاً منذ عهد أتاتورك عن حماية النظام العلماني للدولة، وخاض لأجل ذلك عدّة انقلابات عسكرية. خاض إسلاميو تركيا منذ عهد أربكان وتوركوت أوزال مساراً طويلاً وشاقاً من التحوّل السلمي للسلطة. استفاد السياسيون من دعم أوروبا لسياسات تحييد دور العسكر في السياسة. قلّصت التعديلات الدستورية التي قام بها حزب العدالة والتنمية في ما سمّي بحزم التعديلات من دور المجلس القومي العسكري ، مستغلاً في ذلك ملفات الفساد التي لاحقت الجيش الذي شاخ الكثير من قياداته التاريخية، واستبدلتها نخب شابة تكوّنت في فترة صعود الإسلاميين السياسي مع أوزال، والإقتصادي مع أربكان، والثقافي مع حركة كولن ونظيراتها.
- الجيوش العربية وأزمة الشرعية
تبدو الخيارات المطروحة أمام الجيوش العربية اليوم متعدّدة في مواجهة الحراك الشعبي الذي عبّر عن أزمات الاقتصاد والتسيير وضعف الدولة الوطنية.
يقين, [٢٣.٠٤.١٩ ٠٦:٢٥]
نموذج الإنقلاب الداخلي في الجيش البرتغالي ونموذج التحييد الخارجي في تركيا، ونموذج التحوّل المؤسّساتي في أندونيسيا وفي دول أخرى كالشيلي وإسبانيا وإيران، تؤكّد أنه لا توجد وصفات "جاهزة" لمأسسة العسكر وللعبه الدور السياسي الإيجابي بدل دوره الرافض لكل تغيير.
أمام الدول العربية وخصوصاً تلك التي تشهد حالياً حراكاً شعبياً كالجزائر والسودان وأزمة ليبيا عقبات متعدّدة لقيام مشروع وطني يقوده أو يساهم فيه العسكر:
1- الدعم الأجنبي:
في تركيا ظلّ الدعم الأجنبي العسكري الأميركي قوياً منذ دخول الناتو وبلغ ذروته في فترات التوتّرات. "أولادنا فعلوها"، هكذا بعث المسؤول الاستخباراتي الأميركي رسالة واضحة لجيمي كارتر غداة الإنقلاب الذي قاده شبان العسكر وقادتهم في مرحلة من عدم الاستقرار الذي ارتبط بسياق صراعات الحرب الباردة وأزمات تركيا مع الكرد ومع العلويين ومع الإسلاميين.
بعد الانقلاب، استمر دعم الجيش لكن السياسات الاقتصادية الناجحة لتورغوت أوزال، ومن بعده لأردوغان أسهمت في ترسيخ قِيَم الديمقراطية والعلمانية اللتين لم يستطع الجيش الوطني تجاوزهما من دون دعم شعبي واسع وحقيقي. لقد أدّت الأزمات المتوالية إلى بحث الأتراك عمَن ينقذ الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور. ترسّخت في تركيا تقاليد عسكرية أسّست لبناء الجيش الوطني الذي وجد نفسه بعد عقود طويلة من التدخّل في السلطة غير قادر على مجاراة العملية الديمقراطية وغير قادر على تجاوزها. لقد أخرجت الديمقراطية التي قَبِل بها حزب الشعب المعارض وحزب العدالة والتنمية الحاكم العسكر من ساحة السياسة.
رغم تقلّص الدعم الأميركي لكثير من جيوش العرب، إلا أن التحّولات الجديدة لما بعد "الربيع" أفرزت آليات جديدة للدعم من خلال التمويل الخليجي، الذي تحوّل نحو العسكر في ليبيا والسودان وحتى الجزائر. ورغم أهمية "العمل العربي المشترك"، إلا أن دعم البترودولار لم يسهم في تقوية الدول بل على العكس من ذلك أصبح عاملاً مهماً من عوامل التشقّق السياسي والمؤسّساتي.
2- شرعنة الحكم العسكري:
لم تتمكّن الدول العربية والتي شهدت حراكاً من بناء منظومة إعلامية مستقلة، كما أن المؤسّسات الدينية الرسمية لم تستطع أن تنأى بنفسها عن معترك السياسة. لقد وجد الدعاة والوعّاظ أنفسهم أمام واقع جديد في الربيع العربي. وسرعان ما عاد الوعّاظ إلى لعب دورهم التقليدي في شرعَنة حكم الغالب "ذي الشوكة" كما سماه الفقهاء.
تحالفات الإسلاميين مع فقهاء السلطان، أضعفت مشروع البناء الديمقراطي، وأسهمت في ترسيخ شرعية العسكر حين تبنّت شرعية التغلّب و"غزوة الصناديق". في النموذج المصري، سرعان ما استبدل السلفيون العسكر بالإخوان. لقد قدّم الإخوان أنفسهم كحكّام ُمتغلّبين جدد بمنطق المغالبة السياسية، من دون إعلان قطيعة حقيقية مع أسس الشرعية القديمة التي ورثها الفقه الإسلامي التقليدي منذ قرون.
تحوّل الكثير من وسائل الإعلام والتواصل إلى آليات دعائية غير قادرة على بناء وعي مجتمعي صحيح، وأسهم الاستعجال الذي طبع الربيع العربي في سيطرة لغة الشعارات بدل البحث عن برامج إقتصادية وسياسية حقيقية وفعّالة.
غابت مأسسة الدور السياسي للعسكر في الحياة السياسية، وغابت معها إمكانية بناء نسق سياسي واضح المعالم. أثبتت تجارب عالمية كثيرة أن الانتقال السلس للسلطة يتطلّب توافر إرادات مشتركة، وإعلاماً حراً ونزيهاً، ومؤسّسات دينية قائمة على احترام الثوابت التي أسّست لها.
3- أزمة المأسسة:
في أغلب الدول العربية يرتبط الجيش بالحاكم العسكري، ويمثل أحياناً امتداداً لشخصه. في السودان، أسهمت البرغماتية "المائعة" التي قادها العسكر والإسلاميون في فقدان الجيش والدولة على حد سواء لأسس واضحة للشرعية. لقد فرّط الجيش في الحدود الإقليمية للدولة وبحث لنفسه عن أحلاف من دون أيّ تصوّر وطني استراتيجي مما ضبّب الرؤية السياسية وأفقد الجيش قدرته على بناء عقيدة وطنية واضحة.
على النقيض من ذلك يبدو الجيش الجزائري ذو انسجام أكبر. لقد لعبت حرب التحرير الدور المهم في بناء شرعية وطنية استقلالية تجاوزت أحياناً حدّها الوطني لتستأثر وحدها بالسلطة من دون مبرّرات معقولة، ومن دون موارد حقيقية لتجديد مشروعيتها.
أسهمت سياسات بوتفليقة في إضعاف النخبة الفرنسية في الجيش من الذين كانوا مع المستعمر، ولم يتبق من القيادات التقليدية إلا أولئك الذين قاتلوا فرنسا. أثر هذا التحوّل على الحساسية "السيادية" للجيش تجاه الغرب وخصوصاً فرنسا التي لا زالت حاضرة بقوّة في المشهد الجزائري. بمقابل هذا، لم تستطع الجزائر بعد أن تضع حدوداً للتدخّل العسكري في بلادها، فالجيش لا زال متحكّماً إلى حدٍ كبيرٍ في الحكم، وأغلب رؤوساء الجزائر ينتمون بشكل أو بآخر إلى المؤسّسة العسكرية.
لازال العسكر مسيطراً على الأنشطة الإقتصادية الكبرى وعلى السياسات العامة في مقابل صعود برجوازية جديدة متربّحة من الفراغ الذي أعقب إبعاد جنرلات فرنسا. هل يمكن التعويل على الإصلاح الدستوري لتحييد دور العسكر السياسي؟
لقد أثبت التاريخ السياسي القريب أن التحوّلات السياسية الكبرى لا ترتبط بتغيير الوثائق الدستورية من دون تغيير أسس الشرعية والتحوّل من شرعية القوة إلى قوة الشرعية.
لصالح موقع الميادين نت
أضيف بتاريخ :2019/04/23