الخطيئة المؤسسة لمؤتمر المنامة
عبدالله السناوي
لم يحدث في تاريخ أية أزمة كبرى تسعى إلى تسوية ما، مهما كانت طبيعتها وقدر التنازلات فيها، أن انفرد طرف واحد بتقرير كل شيء طلباً للحصول على كل شيء دون أدنى اعتبار للطرف الآخر ووجوده نفسه. حتى صكوك الاستسلام تفترض توقيعاً ما من شريك يقبل التزاماتها المجحفة.
الغياب الفلسطيني عن المؤتمر الاقتصادي الأميركي المزمع عقده في العاصمة البحرينية هذا الشهر حكم مسبق بالفشل لخطة السلام الأميركية، التي يطلق عليها «صفقة القرن»، غير أنه يكشف مدى التراجع الذي وصلت إليه ما كانت توصف ــــ عن حق ــــ بقضية العرب المركزية.
جوهر الخطة فصل ما هو اقتصادي عما هو سياسي ونزع الطابع الوطني التحرري عن القضية الفلسطينية وإحالتها إلى محض مشروعات اقتصادية تحسن مستويات معيشة الفلسطينيين تحت الاحتلال. كانت اتفاقية «أوسلو» منتصف تسعينيات القرن الماضي، بالأجواء التي سبقتها والنتائج التي ترتبت عليها، تأسيساً مبكراً لمؤتمر المنامة. حسبما كشف محمد حسنين هيكل في محاضرة ألقاها في باريس إثر صدمة «أوسلو»، فإنه قد طلب من المشاركين العرب في «مفاوضات مدريد» أن يفرّقوا بين نوعين من السلام: سلام سياسي له علاقة بالتاريخ ومخلّفاته، ورفع هذه المخلّفات يحتاج إلى وقت، وسلام اقتصادي له علاقة بالمستقبل ومتطلباته، والحصول على جوائز متاح وسريع.
كان شيمون بيريز الأوضح والأصرح حين شرح لبعض الزعماء العرب تقسيم الاختصاص بينه وبين خصمه وسلفه إسحاق رابين. قال بيريز بالحرف تقريباً، وقوله مسجّل في محاضر رسمية: «رابين في اختصاصه المسائل السياسية وهي معلقات من التاريخ» (...) «أما أنا فاختصاصي هو التطبيع الاقتصادي وهو أمل المستقبل». ذلك النوع من الفصل بين المسائل السياسية والتطبيع الاقتصادي استهدف أساساً جَرّ العرب إلى التطبيع مع إسرائيل بثمن سياسي أو بدون ثمن.
بدا ذلك انتحاراً للمعنى في العالم العربي ــــ بتوصيف هيكل ــــ وجد طريقه حتى إلى قواميس اللغة يعيد كتابة مداخلها ويعطيها مفردات يتناقض فيها اللفظ مع المعنى من نوع «السلام العادل والشامل» (بغير سلام أو عدل أو شمول) ــــ و«الشرعية الدولية» (وهي إشارة إلى القوة دون اعتبار لقانون أو مبدأ) ــــ و«التسوية السلمية» (بمعنى الاتصال والتفاوض طبقاً لحقائق فرضها السلاح).
فيما بعد استكمل بالوثائق والشهادات رؤيته الكاملة لما جرى في «أوسلو» بواحدة من أهم مجموعات كتبه «المفاوضات السرية». وقد استغرقته بالاهتمام والمتابعة تبعات «أوسلو»، وبالخصوص مشروعات دمج إسرائيل اقتصادياً واستراتيجياً في الإقليم.
وحين سجّل في مداخلة فضائية مخاوفه واعتراضاته على «الاتحاد من أجل المتوسط» الذي ترأسه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ونظيره المصري حسني مبارك، دعاه الأول إلى لقاء في الإليزيه للحوار حول ذلك الاتحاد ومستقبله.
كان من رأيه أن مجافاة الحقائق لا تؤسس لأي اتحاد. وكان من رأيه أنه إذا لم ينهض العرب للدفاع عن قضاياهم فإنهم سوف يكونون نهباً لمشروعات الآخرين. هذا ما حدث ــــ بالضبط ــــ حيث تلاشت الخطوط بين السلام والاستسلام.
«لا يوجد شيء في الأدبيات المتاحة عن الشرق الأوسط الحديث يقارن بسرده المحكم المفصل عما حدث أثناء حربي ١٩٦٧ و١٩٧٣ إلى ما قبل أوسلو»، «كتاب المفاوضات السرية أفضل من مئات الأطروحات المتخصصة في الشرق الأوسط، على أقل تقدير يمكنك أن تعرف من خلال ذلك الكتاب أن عملية السلام حققت ٩٠٪ من مطالب طرف و١٠٪ من مطالب طرف آخر، وأن ذلك سوف يؤدي إلى صدمة مستقبلية»، هكذا كتب إدوارد سعيد في صحيفة «الغارديان» البريطانية عام (١٩٩٦) تحت عنوان «المراقب المستقل». بصورة أو أخرى، فإن هيكل وسعيد تشاركا، كل بطريقته، في كشف حقيقة أوسلو وعملية السلام كلها، وقد فاقت صدمة المستقبل توقعاتهما ومخاوفهما معاً.
كان اعتقادهما أن أوسلو فاشلة لا محالة، وأنه سوف يترتب عليها تراجعات فادحة في القضية الفلسطينية، غير أنه لم يخطر ببالهما أن يصل التردي إلى حد استضافة عاصمة عربية لمؤتمر عن القضية الفلسطينية تشارك فيه إسرائيل ويغيب عنه أصحاب القضية، وأن تصل الهرولة العربية إلى حد التطبيع المجاني دون ثمن أو مقابل. بتعبير هيكل، فإنه «سلام الأوهام»... وبتعبير سعيد فإنه «سلام بلا أرض».
في نص مؤثّر سياسياً وإنسانياً كتبه هيكل في أيلول / سبتمبر ٢٠٠٣ عقب رحيل إدوارد سعيد لم يتضمنه كتاب، أو أشار إليه في حديث، تأكيد على أهمية الدور الذي لعبه في النفاذ إلى الضمائر الإنسانية وهو دور كلّفه «حملة ضارية شنتها عليه جماعات مؤيدة لإسرائيل، أزعجها تأثيره، وظهرت لها ردود فعل تأثرت بما يكتبه ويقوله، ولم توقفه الحملات، فهو في صميم قلبه طالب سلام، شرط أن يكون سلاماً حقيقياً مؤسساً على العدل وقابلاً للبقاء».
نص هيكل يقول: «كان إدوارد سعيد أول من لمّح إلى الخلط الواقع في الصف الفلسطيني وشخصه، وشاركنا معاً في اجتماع خاص في جنيف سنة 1988 هدفه بحث الخيارات المطروحة على القيادة الفلسطينية، مع لحظة تعرضت فيها لضغوط شديدة لكي تقدم ما يطلق عليه تنازلات، وكان مقرراً أن تنقلنا طائرة خاصة من جنيف إلى تونس لقضاء يوم واحد مع القيادة الفلسطينية بكل فصائلها. وحين جاء موعد السفر، أسرّ إليّ إدوارد بأنه سوف يعود مباشرة إلى جامعته في نيويورك ولن يذهب معنا إلى تونس، واستوضحت أسبابه، بينما قضية عمره على منحدر، وكان رده باختصار أنني سوف أفهم موقفه أكثر عندما أذهب إلى تونس وأرى بنفسي». يضيف هيكل «ثم توافقنا فيما بعد بغير اتفاق على ردة فعل إزاء موقف واحد من اتفاقية أوسلو، وشرحت موقفي لأول مرة في محاضرة في الجامعة الأميركية، لكن إدوارد في أميركا كان يتحدث إلى العالم، فقد رفع صوته صافياً، متصاعد الإيقاعات، معبراً بحيوية خلابة، شاهداً بالحق على دور الموقف والمثقف، وحين يختار المعلم أن تصل ذخيرته إلى العالم الأوسع بسرعة دون انتظار التأثير البطيء في المحيط الأكاديمي، فهو يريد أن يلحق الحوادث ويلامس المستقبل، وكذلك يسبق موتاً يعرف أنه في انتظاره، وكان ذلك مشهداً جليلاً من أي منظور تقع عليه عين أو يستشعره وجدان». لم يكن ذلك نعياً لرجل رحل بقدر ما هو أسى على غياب الدور نفسه.
هناك ما يشبه الغياب لأدوار المفكّرين والمثقفين والأدباء الفلسطينيين في إلهام فكرة الحق المعذّب الذي يستثير أوسع تضامن إنساني مع أعدل القضايا، هذه أدوار لا تقل أهمية عن أية أفعال سياسية مباشرة. فيما التنكيل بالحق الفلسطيني يبقى العنوان الرئيسي لمؤتمر المنامة، كان لافتا أن السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان استبق ذلك المؤتمر بتصريح قال فيه إن «من حق إسرائيل ضم أراض بالضفة الغربية».
كانت تلك مصارحة مستخفة بالفلسطينيين والعرب كلهم عن طبيعة الخطة الأميركية، كل شيء مقابل لا شيء، بما يعني أن الـ (10%) التي قال إدوارد سعيد أنه ربما يكون الفلسطينيون قد حصلوا عليها في «أوسلو» تبدو في سبيلها إلى التقويض الكامل بتخاذل عربي مريع يصل مداه في مؤتمر المنامة.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/06/13