إحذروا سقوط سوريا
طراد بن سعيد العمري
نحذر الجميع وفي مقدمتهم السعودية ودول الخليج من سقوط سوريا بكل مكوناتها: الرئيس، والنظام، والجيش، والحزب، والمؤسسات، والأرض، والشعب. محاولة الفصل بين مكونات الدولة، أي دولة، لا يستوي مع المنطق وليس إلا تجميل للأسوأ. سقوط سوريا يعني أمرين: (١) تعاظم “الإجهاد السياسي” (Political Fatigue) على دول الخليج والسعودية تحديداً مما سيؤثر بشكل سلبي؛ (٢) تزايد وإنتشار الإرهاب المنبعث من سوريا ليعم كافة دول المنطقة العربية من الخليج إلى المحيط. ولذا يستحسن بالسعودية كدولة رائدة وقيادية في المنطقة أن تقود الجهود للحيلولة دون سقوط سوريا مهما كلف الأمر لأن ذلك يَصْب في مصلحتها الوطنية، من ناحية، ومصلحة الدول العربية والمنطقة، من ناحية أخرى.
يهمنا أن نذكُر ونذكّر بأننا سبق أن حذرنا في مقال نشرته الشرق الأوسط في عددها (٨٧٢١) بتاريخ ١٤ أكتوبر ٢٠٠٢م، بعنوان “هل يصلح بوش وبلير إتفاق سايكس – بيكو أم يفسداه؟” قبيل احتلال العراق، أي قبل ١٤ عاماً، مما يجري في الشرق الأوسط وأن الفوضى الخلاقة ستعم العراق ومصر وسوريا والسعودية. كما حذرنا في مقال نشرته صحيفة الحياة مع بداية الأزمة في سوريا، أي قبل خمس سنوات، مقال بعنوان “الربيع العربي .. سوريا غير” حذرنا فيه من تداعيات الفتنة ومن سقوط سوريا وخلصنا فيه إلى القول: ” أن بقاء النظام السوري سيحفظ مكانة سوريا والشعب السوري، وسيحافظ على ماتبقى من النظام العربي، وسيمنع شتات الفلسطينيين، وسيمكن من إنشاء دولة فلسطينية، وسيكسر شوكة إسرائيل الصهيونية، وسيحد من طموحات تركيا العثمانية، وسيكبح جماح إيران الفارسية، كما سيساعد السعودية على الإضطلاع بمسئولياتها في ظل الثنائية القطبية العربية الجديدة”. واليوم نحذر من سقوط سوريا لأن ما يعنينا في المقام الأول هو السعودية بصرف النظر عن منفعة، حقيقية أو وهمية، يسوقها البعض لدفع السعودية باتجاه الانخراط عميقاً في سوريا، فدرء المفسدة مقدم على جلب المنفعة.
مرت خمس سنوات على الأزمة في سوريا والرئيس والنظام والحكومة والجيش والحزب متماسك بشكل كبير، بالرغم مما قيل مع بداية الأزمة أن المسألة لن تتعدى بضع أشهر ويسقط النظام. أما الشعب فما بين قتيل ومشرد، والأراضي السورية جزء منها بات مستباحاً بين فصائل وجدت في الإرهاب وسيلة حياة، وبين أقليات مثل الأكراد وجدت في الأزمة تعبيراً عن أحلامها في تأسيس كيان مستقل. والدول العظمى والإقليمية وجدت في الأزمة حيّزاً للممارسة لعبة “عض الأصابع” وتحقيق مصالح بعيدة المدى. وفي الجانب الآخر أفراد معظمهم نزح عن سوريا وتجمعوا في عواصم موسكو وإستانبول والقاهرة والرياض كل يُزعم تمثيل الشعب السوري؛ فكل يدعي وصلاً بليلى ** وليلى لا تقر لهم بذاكا. سيناريو مشابه تماماً لما حدث في العراق، فهل هذا مايراد لسوريا؟
يمكن لنا في السعودية أن نقول عن الرئيس بشار الأسد أي شيء، ونصفه بأسوأ وأقذع الكلمات والأوصاف، ونتهمه ونظامه بمخالفته للمواثيق ولأعراف. أو نكرهه أو نستعديه كما استعدت أمريكا ڤيدل كاسترو وكوبا. لكن ليس كل الدول أو العلاقة معها تعتمد على الحب أو الكراهية، كما أن الكراهية لن تغير حقيقتين: (١) ماحدث ويحدث في العراق من ٢٠٠٣م حتى اليوم أثّر ويؤثر على الوضع الإستراتيجي والجيوسياسي والديموغرافي وتوازن القوى في منطقة الشرق الأوسط وإقليم الخليج تحديداً، وقبل وبعد ذلك كله تزايد الإرهاب؛ (٢) ماحدث ويحدث في سوريا منذ العام ٢٠١١م حتى اليوم أثّر ويؤثر، أيضاً، على الوضع الإستراتيجي والجيوسياسي والديموغرافي وتوازن القوى في منطقة الشرق الأوسط، وقبل وبعد ذلك تعاظم الإرهاب وانتشاره. مما يعني، أن سقوط دولة فاعلة في نظام إقليمي سيكون مؤثراً على النظام بأكمله.
العراق وسوريا ذات خصوصية ديموغرافية في الشرق الأوسط منذ ألاف السنين، اجتمع فيها أعراق وطوائف من شتى بقاع الأرض ولم يضبطهم ويدجنهم سوى أنظمة توصف بالدكتاتورية. ولو نظرنا إلى الأنظمة السياسية في العراق وسوريا لوجدناها متماثلة لحد التطابق في المجمل.
ولذا فاختزال الأمر في رئيس الدولة وتغييره هو تبسيط مخل لمعادلة بنية الدولة. سينفرط عقد الدولة ولن يمكن تحقيق (١٠٪) من أحلام اليقظة التي ترسمها القوى العظمى في مخيلة من تتبناهم كمعارضة بديلة للنظام. الأهم والأخطر، أن عدد المجموعات الإرهابية في ازدياد اليوم في سوريا عنها قبل عقد من الزمان في العراق، وعدد الملتحقين بالإرهاب في سوريا من الخارج يفوق ما سبقه في العراق بأضعاف، وكذلك انتشار العنف والإرهاب في الدول الإقليمية وبقية العالم تضاعف أيضاً.
تتحمل السعودية اليوم أعباء النظام الشرق أوسطي، والنظام العربي، والنظام الإقليمي في الخليج. فبعد سقوط العراق في العام ٢٠٠٣م كانت هناك سوريا ومصر يحملان بعض من الأعباء، وبعد سقوط النظام المصري في العام ٢٠١١م زاد الحمل والأعباء على السعودية، وفي حال سقوط سوريا ستتزايد الأعباء على السعودية فيما يخص النظام العربي والشرق أوسطي، إضافة إلى أعباءها الثقيلة في النظام الخليجي وتحوله إلى قطبية ثنائية تقتصر على: السعودية وإيران. من ناحية أخرى يتأتى “الإجهاد السياسي” من اضطلاع الدولة، أي دولة، بأحمال وأعباء متنوعة بين الداخل والخارج، ومتغيرة في طابعها الخارجي، مما يصيب الدولة بالتعب والوهن، واضطرارها إلى إعادة رسم الأولويات في الاهتمام بقضية على حساب أخرى.
نجحت السعودية في محاربة الإرهاب على المستوى الداخلي بفضل الله ثم بفضل قيادة حازمة حاسمة، لكن تزايد الإرهاب بشكل مضاعف سيرهق السعودية بالتأكيد. الوضع المعتل والمختل في اليمن سيكون قضية تحت الملاحظة الدائمة لأكثر من عقد كامل حتى لو انتهت العمليات العسكرية للتحالف في اليمن. المعضلة الأمنية نتيجة الحرب الباردة بين السعودية وإيران سيكون من القضايا ذات الأولوية الإستراتيجية وستحتل حيزاً كبيراً من الاهتمام والموارد. كما أن القوى العظمى والعالم ينتظرون من السعودية تحريك الملف الأعقد في الشرق الأوسط المتمثل في الصراع العربي الإسرائيلي ليس بحكم مسئولية السعودية القيادية فحسب، بل لأنها صاحبة المبادرة العربية للسلام أيضاً. من جانب مهم آخر، تشكل التنمية الداخلية وبرنامج التحوّل الوطني الذي اختطته الحكومة السعودية للإصلاحات الإقتصادية أهمية قصوى لا يمكن تأجيله من أجل قضايا خارجية.
تشكل “داعش” اليوم في سوريا الخطر المتعاظم ليس للعراق وسوريا فقط، بل لكافة الدول من تركيا شمالاً حتى اليمن جنوباً، ومن الخليج العربي شرقاً حتى دول المغرب العربي غرباً. وبشهادة بان كي مون فإن (٣٧) جماعة في العالم أعلنت بيعتها لـ “داعش” وانضمامها تحت لوائه، مما يعني أن التنظيم في تكاثر وتناثر خارج سوريا، وما الهجمات التي لحقت بتركيا مؤخراً إلا نموذجاً مصغراً لما سيحدث مستقبلاً. لقد عانت السعودية أيما معاناة من حالة قريبة وهي الحالة الأفغانية التي اجتهدت السعودية حينذاك بدوافع دينية وأخلاقية، لكن العواقب كانت سيئة ومريرة. ولقد عانت السعودية، أيضاً، من الحالة العراقية. كما تعاني السعودية اليوم، جزئيا، من الحالة السورية. وفي حال سقوط سوريا ستكون المعاناة أشد وأقسى ليس لتغيّر السبب فقط وهو الإرهاب، بل لتغيّر الظروف والبيئة والمسئوليات السعودية.
اجتهدت السعودية بالوقوف مع الشعب السوري لأسباب عديدة: دينية وأخلاقية وثقافية ومعنوية، وهاهي اليوم تشارك العالم في الضغط لاستمرار الهدنة التي صمدت حتى الآن. كما سهّلت السعودية لما يسمى المعارضة بالجلوس مباشرة مع وفد الحكومة بعد أن ساهمت السعودية في إجبار مجلس الأمن على تبني قرارات تحقق شيء من الإنصاف للطرف المقابل للحكومة السورية. هنا نعتقد، ونؤكد، أن السعودية قد عملت ما يجب عمله، ولابد لما يسمى المعارضة أن يتحلون بالانفتاح والمرونة والبراغماتية لتحقيق أمرين: (١) استيعاب كافة أطياف ماسمي معارضات سورية في موسكو والقاهرة والداخل ليثبتوا أن التغيير في الفكر موجود؛ (٢) المشاركة مع الرئيس والحكومة والنظام القائم في حكومة من أجل تغيير مستقبلي واعد في مدة لا تقل عن (١٠) سنوات للحفاظ على سوريا، وعدم الإضرار بالدول المحيطة. فهاهي روسيا فاجئت العالم بالانسحاب ولو جزئيا من سوريا تحسباً للمستقبل، ولا يضير السعودية أن تفعل الشيء ذاته.
تعلُق “المعارضة” بالأسماء والأشخاص يمكن قبوله من أجل الضغط السياسي والإعلامي، لكنه لن يجد صدى لدى النظام، كما أنه يدل على كثير من الإقصاء وشيء من الدكتاتورية لدى ما يسمى “المعارضة” في وقت يجادلون بأنهم ضد الطغيان والدكتاتورية. من جانب أخر، شاهدت “المعارضة” نتيجة سريعة لتعنتهم وعدم ضمهم لبعض الأحزاب الكردية أن أعلن الأكراد بشكل أحادي الحكم الذاتي في منطقة قاموا بحمايتها بالدم والسلاح. عدم فهم “المعارضة” للمئالات مطالبهم والعواقب لرحيل الرئيس وتفتيت النظام والجيش والأراضي وتبعثر الإرهاب يعني سذاجة سياسية تأتي من هواة في السياسة وقِلة معرفة في بناء الدول. وحري بالسعودية أن تضع أمام “المعارضة” الحقائق الإستراتيجية والعواقب لكي يظهروا شيء من التعقل والحكمة لصالح سوريا. ويجب أَن تعلم المعارضة أن “الصدق الممل خيراً من الكذب المشوّق”.
أخيراً، في الحالة العراقية كانت أمريكا تتكيء على الموارد الطبيعية لإعادة الاعمار ولم يتم ذلك حتى الآن، فعلى ماذا تتكيء “المعارضة السورية؟ أم أن التفكير منصب اليوم على إزاحة الرئيس وسيناريو التفكيك واستلام السلطة فقط من دون أدنى تفكير في إعادة التركيب ومن أين؟ هنا الأمل معقود على السعودية أن تدرء عن نفسها تكرار أزمات سبق أن عانت منها كثيراً، ونحذّر من سقوط سوريا لأن ذلك سيشكل شراً مستطيراً على المنطقة بأكملها وعبئا ثقيلاً على السعودية تنوء بحمله أعظم الدول، لأن الأوضاع تغيّرت. ختاماً، تفكيك أنظمة غير محببة في دول عميقة ليس سهلاً كما يتصور البعض، فهذا هو الرئيس الأمريكي يزور كوبا بعد (٨٨) عاماً من الاستعداء والعناد السياسي. فأن تعمل الشيء متأخراً أفضل من أن لا تعمله على الإطلاق، كما يقول المثل الغربي.
صحيفة أنحاء
أضيف بتاريخ :2016/03/25