التحوّل الوطني والكورن فلِكس
طراد بن سعيد العمري ..
تنشغل كافة الدوائر الحكومية في إجتماعات وورش عمل وعصف ذهني في مركز الخزامى بالرياض حول برنامج التحوّل الوطني، ذلك المبنى الجميل من فئة الخمس نجوم على شارع العليا بالرياض، والذي يذكرنا بأيام وليالي قبل خمس سنوات تكاثر فيها العصف والورش وتلوين سوق العمل في ما سمي برنامج “نطاقات” بألوان ما أنزل الله بها من سلطان. مركز الخزامى اليوم يوحي بقرب إعلان الخطوط العريضة لهذا البرنامج الذي من المفترض، حسب ما أُعلن، أنه سيغيّر الأساليب التي كانت سائدة في التنمية، لكن الهدف من التنمية سيبقى ثابتاً، على مانظن، وهو “المواطن” وتحسين مستوى معيشته وحياته ورفاهيته. حسناً
.
يشكك عدد ممن قابلناهم في نجاح هذا البرنامج. ويطرحون تساؤلات مشروعة، منها: كيفية معرفة توقعات المواطن، هل سبق للقائمين أن أجروا دراسات وإستبيانات عن “توقعات” المواطن في كافة مناحي التنمية، أم أن الأمر يقتصر على ثلة يقودها “ماكينزي” وشركاه ترسم صورة وردية تشبه دعاية “الكورن فليكس” لما ستكون عليه حياة المواطن السعودي؟ فمما رشح عن برنامج التحوّل أنه يحاول رسم صورة في ذهن المواطن تبقي لديه شيء من الأمل والتحفز للتغيير. فدعاية “الكورن فلِكس”، على سبيل المثال، تسوّق للحياة الأمريكية وليس للمنتج وحبوب الذرة، بل لتلك العائلة السعيدة التي تبتسم وتملأها السعادة والحبور في بيئة نظيفة زاهية معقّمة وملابس جميلة وإبتسامة بين الزوج والزوجة وطفلين فقط يتناولون إفطار “الكورن فلِكس” مع كوب عصير البرتقال. تقول الدعاية بشكل غير مباشر: إن تناولتم هذا المنتج فستصبحون سعداء كهذه العائلة النظيفة السعيدة … منظر جميل، لكن الحقيقة مغايرة تماماً.
لا يمكن لوزارة أو حكومة أن تبني برنامجاً فعّالاً وناجحاً للتغيير والتطوير مالم تدرس توقعات المستفيدين. التوقعات وإدارتها Expectation Management هي الحلقة المفقودة لدى وزرائنا ووزاراتنا ذات الطبيعة الخدمية للمجتمع. وفي ما يخص التحوّل الوطني نقول هنا فرد ومجتمع عاش عقوداً طويلة يُشحن إعلامياً بأننا الأغنى والأقوى والأفضل والأحسن والأكثر ثراء وبالتالي فهو يتطلّع إلى الأفضل في كل شيء. يريد المواطن عملاً مجزيا ومناسباً ومستقراً لايقل عن مثيله في أرامكوا وسابك، من دون أن يتشكى الوزير من عدم تعاون الدوائر الحكومية. ويريد أحياء سكنية لا تقل جودة وجمالاً عن الحي الدبلوماسي، من دون أن يحيله الوزير إلى إصلاح “الفكر”. ويريد في كل مدينة مستشفى شبيه بالتخصصي، من دون أن يسخر منه الوزير. كما يريد تعليماً عاماً لا يقل عن المدارس الدولية، وجامعياً لا يقل عن جامعة الملك عبدالله برابغ، من دون أن يشتكي الوزير بأن النظام التعليمي مختطف. هذه توقعات المواطن التي عاش عليها عقود منذ أول خطة تنموية.
لكن دعونا نتذكر أن الهدف هو: المواطن وتحسين مستوى معيشته وحياته ورفاهيته. ولذا: (١) أي جهد لا تظهر نتائجه الإيجابية على المواطن بشكل سريع وواضح وغير مزيف فهو عبث بكل معنى الكلمة؛ (٢) إذا لمس المواطن الآثار السلبية فقط كمقدمات للتحوّل كارتفاع فواتير الخدمات فهذا سيشكل عائقا نفسياً يؤدي لفشل البرنامج؛ (٣) أن الحكم على البرنامج سيتم من خلال النتائج الملموسة للمواطن الفرد العادي، وليس الجهد المعمول أو الإنفاق المبذول من الحكومة؛ (٤) أن المواطن الفرد إنسان خلقه الله عز وجل “عجولا”، ولن يستطيع الانتظار لحين إصلاح المؤسسات الحكومية، وتطوير موظفي القطاع الحكومي، واكتمال خصخصة بعض القطاعات جزئياً أو كليّاً، ومحو ظاهرة الفساد في الأفراد والمؤسسات، وتحويل القطاع الخاص إلى قطاع ملائكي لا يتحايل أو يكذب أو يغش أو يبتعد عن “الرشوقراطية”. المواطن ياسادة: سهل، وقنوع، وعقلاني، وذكي، ولديه ذاكرة قوية، ومنطقي يمكن له تمييز الخبيث من الطيب، والتفريق بين تصريحات التضليل وذر الرماد في العيون، وبين العمل المنتج الذي يلمس أثاره وتأثيره.
يريد المواطن في السعودية، كما في كل مكان في العالم، أربعة قضايا مادية رئيسية هي بالأولوية كالتالي: (١) عمل شريف ومناسب بدخل مجزٍ يتناسب ومؤهلاته الشخصية والعلمية والعملية، وأن يحصل عليها بوسائل ميّسرة من دون تمييز أو محاباة، ولا يحتاج في سبيلها شفاعة صديق أو قريب؛ (٢) سكن مريح مناسب في الحجم والمكان والمستوى يتناسب ومستوى دخله بحيث لا يقتص هذا السكن أكثر من (١٥٪) من دخله؛ (٣) رعاية صحية راقية ومجّانية وميّسرة في الزمان والمكان؛ (٤) تعليم مجاني مناسب يؤهله وذويه لتلقي المعرفة اللازمة والمطلوبة لاختيار العمل المناسب في الزمان والمكان المناسب والتطوّر المستمر. هذه هي الوسائل المادية المشخّصة والملموسة للحياة الإنسانية في كل بقاع الأرض، ولا نتحدث عن القضايا المعنوية، ونجزم بأن إدارة برنامج التحوّل الوطني تدرك ذلك تم الإدراك، لكن العقبة التي سيقف فيها حمار “الشيخ ماكنزي” أو البرنامج، هو في تحديد مكان الحصان والعربة.
نعود إلى برنامج التحوّل الوطني لنقول أنه من دون تأمين العمل المناسب وبالأجر المجزي أولاً وقبل كل شيء، ذلك العمل الذي يمكّن المواطن من دفع النفقات المتزايدة في المعيشة والسكن والصحة والتعليم، فذلك يعني أن الترقب الذي في أذهان المواطنين سينقلب إلى خوف مثل ما يجادل به “كاتب هذه السطور”. المواطن ليس مهتماً كثيراً بإصلاح المؤسسات الحكومية، أو زيادة “كفاءة” الإنفاق، أو أي من الحجج التي يتم تسويقها، لأن المواطن يطرح سؤالاً ساذجاً وبسيط: من السبب في تردي كل ذلك؟ أليست المؤسسات الحكومية ذاتها؟ ونحن نتساءل: لماذا يتكلف المواطن تبعة الإصلاحات المنشودة التي ملّ الكتاب وتكسرت أقلامهم، على مانتذكر، وهم يقولون لكثير من المؤسسات الحكومية أنهم على خطأ، وكان كثير من الوزراء يتندرون ويسخرون مما يقوله الكتّاب ويقولون “كلام جرايد”.
أخيراً، إذا أريد لبرنامج التحوّل الوطني أن يحقق أدنى نجاح فليسارع بإصدار قرارات سياسية وسيادية يكون المواطن أحق بالعمل في بلده، ويلزم القطاع الخاص بذلك من دون مواربة أو تضليل. عندها سيتحوّل الإقتصاد وتتحوّل الإدارة ويزداد الإنتاج. المواطن لا يريد مؤشر للأداء (KPI) بقدر مايريد مؤشر دقيق للنتائج ( Key Result Indicator, KRI). المواطن لا يهمه كل تلك المصطلحات التي يسوّقها بعض المسئولين من أجل إصلاح الإقتصاد وبيئته أولاً، ووضعه في مكان الحصان، بحجة أنه سيستتبع ذلك بالضرورة توفير فرص العمل الملائمة وبقية الصورة الوردية التي يرسمها “ماكينزي” وشركاه وأخواتهما. ختاماً، سننتظر حتى تخرج الملامح التفصيلية لبرنامج التحوّل الوطني لكي نعاود الكرة في قراءة موضوعية ثالثة ورابعة، فأما يزول الترقب والخوف، فـ “الإنسان خُلق هلوعا، إذا مسّه الشر جزوعا” … وأما نقول “ما أشبه الليلة بالبارحة” ونشتري “محّاية”. حفظ الله الوطن.
صحيفة أنحاء
أضيف بتاريخ :2016/03/29