حكايتي مع الحجر الصحّي
بيسان طرّاف
نعم قلقة، وذلك ليس عيباً. شعرت بالخوف، وتساءلت: "لماذا تعيش أختي هذا الهاجس؟ هل هو إنذار بأنني فعلاً مريضة ومصابة بفيروس كورونا؟".
"هل أنتِ بخير؟! هل تشعرين بآلام! حرارتك جيدة! أنا خائفة عليكِ، ولا أستطيع النوم".
بصوت خائف وخافت كي لا تسمع والدتي، تسألني أختي عبر الهاتف عند الساعة الواحدة ليلاً بتوقيت طهران، أي الحادية عشرة والنّصف بتوقيت بيروت.
جاوبتها ضاحكةً: "بخير بخير، نامي مطمئنة...".
لا أخفي عليكم! بعد انتهاء المكالمة، شردت لدقائق. نظرت إلى المرآة. راقبت تفاصيل وجهي. قلقة! نعم قلقة، وذلك ليس عيباً. شعرت بالخوف، وتساءلت: "لماذا تعيش أختي هذا الهاجس؟ هل هو إنذار بأنني فعلاً مريضة ومصابة بفيروس كورونا؟". تساؤل أزلته بعد أن حملت مصحفي الصغير الَّذي يرافقني دوماً، وقرأت من السورة، "ألم نشرح لك صدرك"، لأنام براحة واطمئنان.
بزغ فجر السبت، وتبقّى لنا يومان في طهران. أقرأ الأخبار عبر مواقع التواصل الاجتماعي. "كورونا في إيران" الوسم الأول!. من أين يأتي هذا الوسم؟ الخوف يزيد، والحزن يتضاعف، والاستغراب سيد الموقف.
لماذا إيران؟ أيّ حرب بدأها الأعداء على شعب هذا البلد؟
يومان في طهران. سماء العاصمة صافية ليلاً ونهاراً. شعبها المحبّ والمتمسّك بالحياة اتخذ إجراءات الوقاية من دون التوقّف عن التوجّه إلى العمل.
إنه فجر الإثنين. توجَّهت والزملاء إلى المطار. كانت الدموع رفيقة المشوار. لا يمكنني أن أحدّد السبب. أذكر أنَّ دعائي الوحيد كان: "إيران وشعبها بحفظ الرحمن".
وهنا بدأت الحكاية: الطائرة! وكأننا ذاهبون إلى المعتقل. شعور غريب. الركاب. المضيفات. كابتن الطائرة! الكلّ من دون استثناء. نظراتهم مليئة بالشكّ والخوف. لا حديث إلا عن كورونا. خبر هنا وخبر هناك. صراخ. ضجيج. قلق. أعصاب مشدودة. ضحك من حين إلى آخر حين يروي بعضنا لبعض ما ينتظرنا في مطار بيروت، وهنا بيت القصيد.
السيناريو الأول: ينطلق صوت عبر مكبر الصوت. يقول لنا وكأننا متّهمون: "لن نفتح باب الطائرة قبل ملء الاستمارات"، وإذ بإحدى السيدات تنهار أمامي وتصرخ: "نحن بشر! لماذا تتعاملون معنا وكأننا مجرمون؟".
السيناريو الثاني: فُتح باب الطائرة أمامنا، وخرجنا يرافقنا شعور التحرير من المعتقل. حُدد لنا طريق خاص معقّم، بحسب قولهم. كلنا مجتمعون في مكان واحد. ينتظرنا طاقم طبي من وزارة الصحة، ويفحص حرارتنا، ويأخذ الاستمارات.
خرجت من المطار مكتئبة. أريد أن أصرخ فحسب. كانت أختي تنتظرني، وكم كان اللقاء قاسياً! لا أعلم من منا كان خائفاً أكثر على الآخر!
ركبت السيارة وتوجّهت إلى بلدتي في جنوب لبنان، إلى منزلي، إلى موطني الآمن. أمي هي الوجهة الحقيقية والحصن الحصين لي دائماً. أمي التي لم ترحمها الحياة أبداً، لم ترحمها لحظة وصولي أيضاً. لا عناق. الحضن خالٍ، وسيبقى خالياً لمدة 14 يوماً. أمي التي أدخلت إلى حياتنا أبجدية جديدة في اللغة للتعبير عمّا في داخلها، أشعر فعلاً بأنها أنجبتنا من جديد لنبلغ اليوم من العمر سنتين. في عجزها أصبحنا أقوياء من أجلها فقط. نعم، من أجلها.
أجلس في الغرفة المقابلة لغرفتها، ولكن الاقتراب منها ممنوع! لن أبدأ يومي بغمرة منها وقبلة تختزن الكثير من القوة والثبات والإيمان والحمد والشكر لله لأنها موجودة.
أمي التي فقدت القدرة على المشي والنطق، كنت أراها من خلال شاشة الهاتف عبر خدمة "الفيديو كول". ترسل إليّ الكثير من القبلات وهي تبكي. تضع يدها اليسرى على قلبها لتقول لي: "أحبك".
أما غرفتي، فهي مجهّزة بكل وسائل الوقاية، لأبدأ مشواراً جديداً واختباراً جديداً من "المسؤولية" اعتدته منذ لحظة وفاة والدي ومرض والدتي.
الصبر ثم الصبر ثم الصبر.. كان الأمنية الأساسية في أول رسالة دعم لنا من أستاذنا غسان بن جدو؛ الإنسان والأب والقدوة والطبيب بإنسانيته وحكمته أيضاً... تصلنا رسائل اطمئنان يومية منه تشعرنا بالأمان. تمدنا بالقوة. تعلّمنا الثبات والاتحاد، والأهم أنها تفيض لنا برفيق يومي في عزلتنا وهو "الحب".
باختصار، نسيت عدد الأيام التي قضيتها في العزل الصحي. كان الوقت يمر فحسب. كيف مرَّ؟ لا أعلم! بين القراءة والنظر إلى سقف الغرفة أو المرآة لساعات. بين الصلاة والدعاء ومشاهدة الأفلام، والحديث إلى زملاء التجربة الذين اعتدت عليهم وباتوا جزءاً أساسياً في حياتي.
وهنا أعترف. لا أريد لعلاقتي بهم أن تنتهي. تشاركنا الكثير سوياً؛ أخبارنا، حال الجنون والهلع في الخارج، يومياتنا، والكثير الكثير من المزاح والنكات.
الشيطان الجديد، الكورونا، يبقى العنوان الأول. لم أتوقّع يوماً أن نكون جزءاً من الحدث، بدلاً من أن نكون ناقليه كصحافيين. نحن الحدث! ولكننا لن نكون مجرد عداد ينقل إلى الرأي العام عدد المتوفين وهُوياتهم وأماكن وفاتهم. إنها قاعدة ثابتة في رسالة الإدارة التحريرية في قناة "الميادين" حول التعاطي مع أخبار الكورونا في العالم؛ قاعدة استفدت منها في عزلتي.
تجنّبت قراءة أي خبر سيئ. لا أريد أن أعرف أعداد المتوفين. لن أحبط. الإحباط ممنوع!
توجّهت أنظاري إلى إيران التي بقيت الحدث، على الرغم من انتشار الوباء وانتقاله بخفّة من بلد إلى آخر. كيف لا! وهي بلد الانتصارات والإنجازات. الثائرة دوماً على الحصار والعقوبات والإساءة. إيران التي يحار أعداؤها كيف يخطّطون لتشويه صورتها، لكنهم نسوا أنَّ اسم الله يتوسَّط علمها، وأنَّه حاميها.
هنا بدأت أبحث يومياً عن أي معلومة مفرحة، عن أي خبر جميل، عن أي إنجاز طبي، عن أي فيديو يبعث الأمل في نفسي، فأنشره عبر صفحاتي "تويتر" و"فايسبوك"، لأشيع التفاؤل بين أصدقائي الافتراضيين الذين أصبحوا أيضاً جزءاً من يوميات عزلتي. من كلّ دول العالم، يصلني الكثير من رسائل الاطمئنان والتمنيات لي ولكل زملائي في "الميادين" بالصحة والعافية.
شاهدت الكثير من مقاطع الفيديو المليئة بالصبر والإيمان والإيجابية لأطباء وممرضين وفنانين إيرانيين وأجانب اتخذوا الفن دواء لمواجهة عدو لا يعترف بحدود الدول.
كانت تجربة قاسية. هكذا وصفتها في أول فيديو تشاركته مع الناس عبر "تويتر". لم تكن قاسية لأنني مجبرة على التزام غرفتي ليلاً ونهاراً. في الحقيقة، لم أبالِ بهذا الأمر، لأنني أحبّ فكرة المنزل. أحبّ فكرة الغرفة نفسها، والجدران الأربعة، والباب المغلق، مهما كان الخارج ممتعاً وشيقاً. بالنسبة إليَّ، لا شيء يساوي الشعور بالطمأنينة والأمان داخل حدودنا.
القسوة كانت تأتي من الخارج. كم تحدَّثت صمتاً من شباك غرفتي مع هذا الخارج! القريب والصديق باتوا اليوم غرباء عني. كنت أسمع يومياً شائعات وتلفيقات عن إصابتي بالفيروس وتواجدي في المستشفى سراً. بكيت في داخلي وحزنت على مجتمع جاهل بعيد كل البعد عن الوعي، وسررت في الوقت نفسه لأنني لا أجيد تمييز معادن الناس فعلاً، إلا أن الكورونا كان صفعة جميلة لي، لأكتشف عقول الناس وقلوبهم، ولأعرف الصديق والقريب والمحبّ، والأهمّ الأصيل. المضحك أنني كنت مادة دسمة لـ"الصبحيات" مع فنجان القهوة، ولكن صراحةً أودّ أن أعرف في أيّ مستشفى كنت! وكم يوماً تبقى لي فيها!؟
بين خبر هنا وقصة هناك، بين بكاء وضحك، بين أمنية ورجاء، كان نهاري يمر. أما الليل، فلي معه قصة أخرى. كانت الوحشة هي الشعور الذي رافقني في بداية أيام عزلتي. السبب كان فعلاً ما واجهته من طاقات سلبية. كنت أخاف من أن أنام، وأرى الكثير من الكوابيس.
في إحدى الليالي، شعرت بأنني مريضة. كان جسمي يرتعش من البرد. أذكر حينها أنني كنت أتخذ وضعية الجنين في رحم والدته خلال نومي. شعرت بالوحدة. كنت خائفة. بكيت بصمت. تألمت بصمت. لا يمكنني أن أصدر أنيناً. لا يمكنني أن أشغل بال أخواتي عليّ!
هنا عشت هاجس المرض. لم أسمح لأختي بدخول الغرفة. ربما كنت مريضة فعلاً! ساعات مريرة وصعبة وموحشة قضيتها، وما إن حل الصباح حتى أصبحت صحتي جيدة، واكتشفت أن تراكم الأخبار السيئة وسطحية الكثيرين تركا آثاراً نفسية في روحي، وأدخلا العتمة إلى قلبي، والوسواس إلى تفكيري.
المفرح أيضاً أنَّ الهاتف لم يرنّ، وبطارية هاتفي لم تضعف طيلة فترة العزل. تفهَّمت عدم مجيء الأقارب إلى منزلي للاطمئنان. لا مشكلة! كان العزل نابعاً من المسؤولية والحرص على أهلي وأقاربي وجيراني قبل نفسي. المحزن فعلاً أنّ ثمة وسائل متعددة للاطمئنان، لا تقتصر على الزيارة المباشرة. ربما كانت هواتفهم خالية من الدولارات أو بطارية هواتفهم فارغة، بما أننا نعيش حالة تقنين في الكهرباء في لبنان!
لن أطيل عليكم في سرد تفاصيل "النكد". بعيداً من هذه الأمراض، ثمة أناس وأصدقاء وزملاء كنت الشغل الشاغل لهم. في الحقيقة، كانت تربطني بهم علاقة عادية، ولكن في امتحان الصبر والمسؤولية تحوّلوا إلى إخوة وممرضين. تصلني منهم رسائل صوتية مليئة بالسعادة والأمل بشكل يومي. مقاطع فيديو مضحكة. نكات. وأخبار تبشّر بمرضى انتصروا على كورونا.
"ما رأيت إلا جميلاً"، قول للسيّدة زينب (ع)، بات منذ سنين شعاراً ثابتاً في حياتي لكلِّ ما يأتينا من استفقاد رحوم من رب العباد، وأنا التي تساءلت منذ صغري: ما الجميل الذي رأته السيدة زينب في استشهاد أحبائها وأحبائنا؟ وكيف يمكن لهذه السيدة الصابرة أن تحصر ما رأته بالجميل؟
كان الجواب، وهو ما ينطبق علينا اليوم، الرضا بمشيئة الله تعالى، والإيمان بالقضاء والقدر، والتوكّل على الله عزّ وجلّ، وأن لا نبحث عن السقطات والهفوات والزلات، أن نترك الآخر لنفسه، له ما له وعليه ما عليه، وأن نرى الجمال في نفوس الناس والمواقف النبيلة، وأنَّ الذي حصل ما كان إلا خيراً، وما كان إلا جميلاً.
لصالح موقع الميادين نت
أضيف بتاريخ :2020/03/10