سيكولوجيا التطبيع (1): كيف نجحت "إسرائيل" في اختراق السعودية؟
علي شهاب
تدل ملاحظات الكثير من المؤلفين النفسيين العالميين على أن ساسة "إسرائيل"، وفي مقدمتهم رؤساء الوزراء، اعتمدوا على مستشارين مختصين في علم النفس في فروعه كافة في محطات مفصلية منذ إعلان قيام الكيان.
تناقش العالمة الإسرائيلية يائيل أرونوف في كتابها الصادر عن منشورات جامعة كامبردج في العام 2014، علم النفس السياسي لدى رؤساء وزراء "إسرائيل"، بعد دراسات استمرت 15 عاماً، وشملت أكثر من 100 مقابلة للشخصيات محلّ الدراسة، وهي تصنّفهم كالتالي ضمن فصول الكتاب:
- إسحاق شامير: صقر مرة واحدة... صقرٌ دائماً.
- بنيامين نتنياهو: مصارعة العالم.
- آرييل شارون: من الحرب إلى الانسحاب.
- إسحاق رابين: من صقر إلى فائز بنوبل للسلام.
- إيهود باراك: كل شيء أو لا شيء.
- شمعون بيريز: من ديمونا إلى أوسلو.
وما يهمنا هو الآليات والأدوات التي استخدمتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لتحقيق خرق في الوعي السعودي على المستوى النفسي.
فما الّذي يفسّر التوجه السعودي إلى التطبيع مع "إسرائيل" التي تحتل أقدس مقدسات المسلمين، مع ما تحظى به بلاد الحجاز من رمزية دينية لأكثر من ملياري مسلم في العالم؟ وهل السعودية فعلاً هي من قررت التطبيع أم أنها جُرّت إليه؟ وهل مبدأ "عدو عدوي صديقي"، في معرض خصومتها مع إيران، يبرر للرياض سياستها الخارجية أم أن عوامل أخرى أبعد من السياسة تشرح انقلاب العائلة المالكة في السعودية على فلسطين؟
السّلاح النفسي في السياسة الإسرائيلية
تولي "إسرائيل" أهمية خاصة لعلم النفس في آليات صنع قراراتها، وخصوصاً على المستوى العملي الأمني والعسكري، في حين تدل ملاحظات الكثير من المؤلفين النفسيين العالميين على أن ساسة "إسرائيل"، وفي مقدمتهم رؤساء الوزراء، اعتمدوا على مستشارين مختصين في علم النفس في فروعه كافة في محطات مفصلية منذ إعلان قيام الكيان.
وتذهب المؤسسة العسكرية أبعد من ذلك في "توظيف" علماء نفس بشكل دائم، وإدراج عملهم وتوصياتهم ضمن آليات صنع القرار الدورية.
يروي أحد علماء النفس العالميين من مستشاري المؤسسة العسكرية في تل أبيب - وهو إسرائيلي الجنسية - في أحد كتبه الرائدة، أنه يتعمد اختيار عناصر مختصين في علم النفس في فريقه ممن يعارضون آراءه، كي يتسنى له تزويد الأركان الإسرائيلية ووزارة الدفاع بأكبر قدر من السيناريوهات المختلفة، وبأبحاث أكبر إحكاماً وشمولية.
ليس الاعتماد على علم النفس أمراً جديداً في الجيوش والدول، ولكنه يحظى بمرتبة متقدمة في "إسرائيل" والولايات المتحدة، التي كانت سبّاقة في تنفيذ عقيدة "الصدمة والترويع" العسكرية، القائمة بالكامل على حِيَل نفسية في غزو العراق في العام 2003، وإن كانت مفاهيم هذه "العقيدة" تعود إلى زمن "صن تزو"، المفكّر العسكري الصيني الشهير.
في العادة، لا تظهر آثار علم النفس في السياسة بالوضوح الذي تظهر به في مجالات أخرى، بسبب "التلاعب" الذي تتسم به السياسة، والتسطيح الذي يساهم به الإعلام في خدمة السياسيين، وهو ما يظهر في جدل السعوديين المدافعين عن تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، متخطين قواعد ومبادئ لا تتعلق فقط بتاريخ الصراع، بل بمصلحة السعودية نفسها على المدى الاستراتيجي.
يتم عادة التغيير السياسي على المستوى النفسي "ضمن مسار متدرّج"، بحسب عالم النفس هيربرت كيلمان في كتابه "علم النفس السياسي للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي".
اعتمدت الاستراتيجية النفسية لـ"إسرائيل" في اختراق الخليج العربي، والسعودية تحديداً، على 5 خطوات:
أولاً، تعزيز شعار مكافحة الإرهاب في الخليج، بهدف قمع أي تعاطف شعبي مع منظمات تُصنف إرهابية. ليس المقصود هنا تنظيم القاعدة ونشاطاته التخريبية، بل المقصود على المدى البعيد هو التنظيمات والجهات التي تعادي "إسرائيل". تزامنت هذه الحملة في الخليج مع التسويق عبر قنوات خلفية للتعاون الأمني، بذريعة مكافحة "القاعدة"، لكن هذا التعاون انتقل إلى مراحل أوسع مع انتقال الحملات النفسية للترويج للتطبيع إلى المستوى الثاني.
ارتكز المستوى الثاني للتأثير النفسي للسياسة الإسرائيلية في اختراق المجتمع السعودي على الدعوة للإصلاحات الدينية والاجتماعية. ما يؤكّد هذا الأمر أنّ السعودية واحدة من دول قليلة في التاريخ تقوم بالمبادرة إلى "إصلاحات" غريبة عما عهده الشعب، بشكل عمودي من الأعلى إلى الأسفل، لا نتيجة ثورة شعبية!
ولا يمكن بأيِّ حال اعتبار هذه الرؤية "الإصلاحية" نتيجة تطور فكري للنظام السعودي، ما دامت عناصر نشوئه في الأساس موجودة، وإن تم "ترويض" المكوّن الديني، كما يحصل في السنوات الأخيرة من زجّ دعاة كانوا محسوبين على البلاط السعودي في السجون.
قادت الولايات المتحدة بطبيعة الحال ضغوطاً واسعة على السعودية، لتنفيذ إصلاحات استهدفت فوراً مناهج تربوية وقوانين تحتاج في العادة إلى عقود من الزمن للتبلور بشكل جديد ويجري تمريرها ببطء، لكن هذه العملية كانت مطلباً إسرائيلياً في الأصل، لكون التغيير "الإيديولوجي" في الشرق الأوسط يخدم أهدافاً أمنية وسياسية، ولا يتم عن قناعات ذاتية.
وما دام المجتمع مستعداً لتقبّل التغيير الهابط من الأعلى، فيمكن الانتقال إلى المستوى الثالث من الاستراتيجية النفسية الإسرائيلية، بفتح قنوات للتعاون المباشر ضد عدو مشترك: إيران وحلفائها. لا يعني هذا أن التفاوض السياسي الإسرائيلي - السعودي انتظر حتى العام 2015؛ عام تنصيب الملك سلمان وهيمنة ابنه الأمير محمد على الحُكم، إذ إن الوثائق الأميركية والأجنبية تتحدث عن عقود مضت حاول فيها الطرفان جسّ النبض، ولكنّ تبلور المستوى الثالث في العلن يظهر أكثر مع إنجاز مرحلة تقبل التغيير الإيديولوجي.
في المرحلة الرابعة والراهنة، تعمل "إسرائيل" بشكل واضح ومتوقع مسبقاً نفسياً على فكرة المحاور المتصارعة، باعتبارها تصطف في محور السعودية وبعض دول الخليج.
لصالح موقع الميادين نت
أضيف بتاريخ :2020/06/13