الخارجية الأميركيّة والشرق الأوسط
زياد حافظ
في جلسة استماع للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي يوم الخميس 24 أيلول/ سبتمبر 2020 قدّم كل من دافيد هيل وكيل وزارة الخارجية واليوت أبرامز المسؤول عن الملف الإيراني والفنزويلي في الخارجية الأميركية، مداخلة حول موقف الإدارة الأميركية من الملفّات التي تشكّل متن السياسة الأميركية في المنطقة. من استمع إلى تلك الجلسة والأسئلة التي طرحها الشيوخ من الحزبين الحاكمين يؤكّد مدى تلازم عالمين متوازيين عند النخب الحاكمة الأميركية: عالم سوريالي يتصادم مع عالم الواقع.
لكن قبل إبداء الملاحظات حول ما جاء في جلسة الاستماع، وفي معظمه لا جديد إلاّ بعض التفاصيل التي تؤكّد قراءتنا السابقة ليقين الواقع الأميركي وإقدام إدارته على تخريب الشعوب والدول، لا بدّ من تلخيص أهمّ النقاط التي أثيرت في الكلمات المقدّمة كما في مرحلة الأسئلة التي تلتها.
الكلمة الأساسية كانت لدافيد هيل أثار فيها قضايا متعدّدة بدءاً باتفاق التطبيع الخليجي مع الكيان الصهيوني، ثم المشهد اللبناني، ثم الملفّ الإيراني، ثم مقاربة عن المحادثات مع بلاد الحرمين، وأخيراً اليمن والعراق وسورية. ما لفت النظر هو المساحة التي أعطيت في كلمة هيل للملف اللبناني. فقد خصّص أربع فقرات لمقاربة الموقف الأميركي من الأزمة اللبنانية بينما الكلام عن الاتفاق والتطبيع الذي تمّ تلقيبه بالاتفاقات الإبراهيمية أخذا فقط أربع فقرات. الملفّ الإيراني لم يحظ بفقرة خاصة، ربما ترك الأمر لزميله أبرامز، إلا بمقدار ضرورة وقف النفوذ والتوسّع “الخبيث” لإيران. المصطلح المستعمل هو malignant أي الخبيث بالمعنى السرطاني!
في ما يتعلّق بالملف اللبناني لم يأت بجديد في وصفه للمأزق اللبناني حيث شدّد على الفساد واستغلال حزب الله للفساد لضرب “مصالح الشعب اللبناني” ولتكديس الأسلحة التي توظّف في نشر عدم الاستقرار في المنطقة. كما كرّر عزم الولايات المتحدة معاقبة كلّ من يقدّم الدعم لنشاطات حزب الله. وفي ذلك السياق أثار العقوبات التي فُرضت على وزيرين سابقين تحت تهمة “إفساد العمل السياسي والمالي خدمة لحزب الله”! كما كرّر سياسة الإدارة في الضغط على “الشركاء” للاعتراف بـ “واقع حزب الله وضرورة تسميته بمنظمة إرهابية”. ويعتبر أنّ الضغوط الأميركية على مصادر تمويل الحزب كانت ناجحة في استشهاده بكلام الأمين العام للحزب بضرورة المساهمة في تمويل نشاطات الحزب بعد تقلّص المساهمة الإيرانية بسبب الضغوط على الجمهورية الإسلامية في إيران. فموازنة الحزب المقدّرة بمليار دولار سنوياً كانت تموّلها الجمهورية الإسلامية في إيران بحوالي 700 مليون دولار سنوياً، وهذا قد تقلّص دون تحديد المستوى. في المقابل لم يأت لا من قريب ولا من بعيد في كلمته وفي إطار الأسئلة على أزمة تشكيل الوزارة ودور فرنسا في الموضوع. وهذا التجاهل للدور الفرنسي كانت نقطة لافتة في نظرنا.
في ما يتعلّق بالملفّات الأخرى كبلاد الحرمين والعراق واليمن وسورية ما شدّ انتباهنا كلامه عن حقوق الإنسان وضرورة رفع الحظر عن السفر للدكتور وليد فتيحي وعائلاته وإخلاء سبيل صلاح الحيدر وبدر الإبراهيم. في ما يتعلّق باليمن كرّر تأييد الإدارة لجهود مندوب الأمم المتحدة مارتن غريفتس في محاولات الأخير لجمع على طاولة المفاوضات الحكومة اليمنية والحوثيين. كما شدّد على الحالة الاجتماعية حيث 80 بالمئة من اليمنيين يعتمدون على المساعدات الإنسانية.
أما في العراق فأثار هيل ما سمّاه استياء الشعب العراقي من الدور الإيراني وتدخل الجمهورية الإسلامية في الشؤون الداخلية العراقية، واستشهد بالحركات الاحتجاجية التي أدّت في آخر المطاف إلى تسمية مصطفى الكاظمي رئيساً للوزراء. وأشاد بجهود الحكومة العراقية التي بدأت تفرض سيادة العراق، حيث قرار المستقبل العراقي يكون في بغداد والبصرة وأربيل والرمادي وليس في طهران. فهل ذلك مؤشر عن نيّة في تقسيم العراق أو فدرالية تعتمد اللامركزية؟
في الملف السوري كرّر هيل السردية التي تحمّل الدولة السورية مسؤولية “الفظاعات” التي ارتكبت بحق الشعب السوري من دون أي ذكر لجماعات التعصّب والغلو والتوحّش والدور التركي. كما أكّد أنّ “قيادة” الولايات المتحدة للتحالف لمحاربة الدولة الإسلامية والمساعدات التي أرسلتها للقوى المناهضة للدولة الإسلامية ستمكنها من هزيمة الدولة الإسلامية. وشدّد أيضاً على دخول قانون قيصر حيز التنفيذ لمعاقبة كلّ من يدعم الدولة والحكومة السورية وحلّ سياسي للأزمة السورية، كما جاء في قرار مجلس الأمن رقم 2254.
هذه أبرز النقاط التي جاءت في كلمة هيل. أما مداخلة أبرامز فكانت قصيرة بالمقارنة حيث شدّد على “نجاح” سياسة الضغوط القصوى في حرمان الجمهورية الإسلامية من 70 مليار دولار من الواردات.
كما أكّد على صحّة قرار الإدارة من الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران وأنّ اقتصادها منهار وخاصة العملة الوطنية التي وصلت على حدّ قوله إلى أسفل المستويات في تاريخها.
لم تأت الكلمتان بجديد وبالتالي يمكن تجاوز أهمية جلسة الاستماع تلك، إلاّ أنّ هناك بعض الملاحظات التي تضيء على المزاج العام في الإدارة وبين أركان الإدارة وفي مجلس الشيوخ والمفارقات بين الشيوخ الجمهوريين والشيوخ الديمقراطيين.
الملاحظة الأولى هي لغة الجسد المختلفة بين دافيد هيل واليوت ابرامز. فالأخير بدا مرتاحاً ومبتسماً طيلة الجلسة بينما دافيد هيل لم يتبسّم مرّة واحدة. إجابات هيل على الأسئلة المطروحة كانت مقتضبة للغاية كما أنّ لغة الحماس لإنجازات الإدارة كاتفاقيات التطبيع لم تكن عالية كما كانت عند الشيوخ الجمهوريين مثل تد كروز وبعض الديمقراطيين مثل تيم كاين. ارتياح أبرامز كان يقترب من حالة الافتخار في “نجاحات” الإدارة في عزل إيران وتجاوزه للانتقادات من قبل شيوخ الحزب الديمقراطي لسياسات الإدارة التي أدّت إلى عزلة كبيرة جداً على الصعيد الدولي. استحضر الشيوخ الديمقراطيون التصويت في مجلس الأمن، حيث لم تكن إلاّ دولة هايتي واقفة إلى جانب الولايات المتحدة. بدا أبرامز أنه لا يكترث كثيراً لذلك الحال، كما أكّد فعاليّة استئناف العقوبات على إيران لأنّ الأفراد والشركات ستخضع للقانون الأميركي بغض النظر عن وجهة نظر الدول التي ترعى الأفراد والشركات. أما هيل فأعطى الانطباع أنه غير مقتنع كلّياً بسياسات الإدارة وإنْ قام بتقديم محترف لتلك السياسة. لغة الجسد ذكّرتنا بلغة الجسد لرئيس هيئة الأركان المشتركة ديمبسي ووزير الدفاع الأميركي آنذاك شاك هيغل في جلسات الاستماع في صيف 2013 عندما فكّر الرئيس الأميركي باراك أوباما بعمليّة عسكرية واسعة ضد سورية. ومن دلائل انزعاج هيل هو رفضه الدخول في الملابسات العسكرية للتمركز الأميركي في العراق وسورية وفي مقاربة مطالبة الإمارات بتسليح نوعي، فاعتبر أنّ الموضوع من غير اختصاصه بل من اختصاص البنتاغون.
الملاحظة الثانية كانت في المداخلات التي قدّمها عدد من الشيوخ. فعلى سبيل المثال أعرب جيم فريش، رئيس لجنة العلاقات الخارجية وهو جمهوري، عن شكوكه حول إمكانية تشكيل حكومة في لبنان طالما استمرّ الفساد متحكماً بالطبقة السياسية. جاءت تلك الملاحظة في افتتاحه لجلسة الاستماع التي أعطت انطباعاً أنّ فحوى الجلسة ستكون حول الأزمة في لبنان غير أنه لم يحصل ذلك. من جهة أخرى وفي سياق مناقشة الملف الإيراني قام بدفاع لافت عن قرار الإدارة في تصفية الفريق قاسم سليماني وأنّ القرار كان في غاية الأهمية حيت تمّ من خلال ذلك ردع التوسّع الإيراني في المنطقة على حسب قوله. وأضاف أنّ خليفة سليماني ضعيف جداً جداً! حيث لا نفوذ له يشابه نفوذ سليماني. واختتم بإصدار تهديد شديد اللهجة حذّر الجمهورية الإسلامية في إيران من الإقدام على قتل أيّ مدني أو عسكري أميركي فإنّ العواقب ستكون وخيمة جداً على حدّ قوله! وكأن لا قدرة للجمهورية الإسلامية على الردّ!
الملاحظة الثالثة كانت في إجابة دافيد هيل على بعض الأسئلة. أحد الأسئلة تناولت “المساعدات الأميركية” للبنان. أفاد أنّ الإدارة الأميركية أرسلت ما يوازي 19 مليون دولار من مساعدات إنسانية كانت بالمرتبة الثانية في حجم المساعدات التي أرسلها العالم بعد تفجير مرفأ بيروت. وفي مداخلة أخرى أفاد أنّ خلال السنوات الماضية (لم يحدّد المدّة) وصل حجم المساعدات إلى 10 مليارات دولار للقوى الأمنية ومنظّمات المجتمع المدني. لم يحدّد إذا كان يقصد الجيش و/أو قوى الأمن الداخلي، وهنا السؤال: إذا كان هناك سقف لما تلقته جميع القوى الأمنية (الجيش والأمن الداخلي) فأين ذهبت المساعدات الأخرى وما هي المنظمات التي استفادت منها؟ ذلك التصريح ذكّرنا بتصريح لجيفري فلتمان عندما قال إنّ الإدارة أنفقت ما يوازي 500 مليون دولار لشيطنة حزب الله. فهل العشرة مليارات التي تكلّم عنها هيل تشمل تلك الأرقام التي ذكرها فيلتمان؟
الملاحظة الرابعة هو اختلاف المناخ داخل الخارجية الأميركية وداخل مجلس الشيوخ. فارتياح أبرامز رغم الإخفاقات في إدارة الملف الإيراني بعد الفشل في إدارته لملفّ فنزويلا، يدلّ بكلّ وضوح أنّ هناك مَن لا يكترث للمصلحة الأميركية بل فقط للمصلحة الصهيونيّة. انزعاج هيل من الأسئلة التي طرحت حول جدوى بيع طائرات اف 35 لدولة الإمارات كان واضحاً ويدلّ على أنّ هناك في مجلس الشيوخ مَن يعتبر أنّ مصلحة أمن الكيان فوق أيّ اعتبار، وفي هذه الحال بوب منندز كبير الديمقراطيين في لجنة العلاقات الخارجية ومن الصقور المتحمسين لكيان الصهيوني. فالشيخ الديمقراطي قال بوضوح إن بيع طائرات “أف 35” لدولة الإمارات يشكّل مخالفة صريحة لقانون أميركي وافق عليه الحزبان والذي يشرعن ديمومة التفوّق النوعي العسكري للكيان. رفض هيل الدخول في التفاصيل وأحاله إلى البنتاغون.
أيضاً من ضمن الفرق في المناخ في مجلس الشيوخ الاختلاف في التأييد لاتفاقات التطبيع. فالحزب الجمهوري بلسان رئيس لجنة العلاقات الخارجية جيم فريش وبلسان تيد كروز اعتبرا أنّ الاتفاقات إنجازات تاريخية. الشيخ بوب منندز أيّد الاتفاق ولكن لم يستطع أن يسجّل ذلك الاتفاق كإنجاز حققته الإدارة إلاّ من باب رفع العتب. انعكست برودة الحماس لتلك الاتفاقات في الاعلام المهيمن الذي لا يريد أن يعترف بإنجاز ما حققته إدارة ترامب.
في الخلاصة يمكن القول إنّ جلسة الاستماع لم تأت بجديد إلاّ للتأكيد على إجماع سياسي ضدّ الجمهورية الإسلامية في إيران وحلفائها في الإقليم وعلى الانقسام في البيئة الحاكمة حول إدارة ترامب ليس في الموضوع الأساسي والأهداف بل في أسلوب التعاطي. أمن الكيان الصهيوني هو الهاجس الأكبر إن لم يكن الوحيد الذي يتحكّم بسلوك القيادات الأميركية.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/09/26