السعودية في أفريقيا: انضباط تحت السقف الأميركي
محمد عبد الكريم أحمد
واجَه النظام السعودي، وفي قلبه ولي العهد، مأزق صعود إدارة أميركية جديدة غير ودّية تجاهه (أ ف ب )
على رغم أن الدور السعودي في القارّة السمراء يبدو ضئيلاً، مقارنةً بأدوار أطراف إقليميين آخرين كتركيا والإمارات، إلا أن المملكة تتّجه، في المرحلة المقبلة، نحو تعزيز حضورها في أفريقيا، ولكن في مجالات محدّدة تتّسق وأجندة الإدارة الأميركية الجديدة، وهو ما يقتضي تراجعها عن تبنّي «سياسات مستقلّة» واستباقية وفق ما أتاحه لها الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب
على عكس توقُّعات كثيرين بصعود سعودي في القارة الأفريقية بعد استحداث منصب وزير الدولة للشؤون الأفريقية مطلع عام 2018، وتولّي سفير الرياض في القاهرة أحمد عبد العزيز القطان المنصب المذكور، شهدت سياسة السعودية في أفريقيا انتكاسات لافتة، تُناقض مساعيها إلى حيازة مكانة متقدّمة هناك، وسط نموّ أدوار القوى الإقليمية والدولية، وخصوصاً تركيا والإمارات، على المستويات العسكرية والاقتصادية والسياسية في القارّة السمراء. وبعد بداية قوية دشّنها القطان بزيارة موريتانيا لحضور قمّة دول الساحل، تلتها أخرى إلى الجزائر برفقة وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان (كانون الأول/ ديسمبر 2018)، وكذلك نجاح الرياض في تيسير التوصُّل إلى اتفاق السلام الإثيوبي- الإريتري (الذي هندسه سفير الولايات المتحدة الحالي في الصومال، دونالد ياماموتو)، ظلّ مسار الدور السعودي أسير ما يمكن وصفه بالتحرُّك عبر شريك أو وكيل: الإمارات في حالة القرن الأفريقي، وفرنسا في حالة إقليم الساحل، مع الأخذ في الاعتبار غياب السعودية النسبي عسكرياً في أفريقيا، حتى في حالة الأزمة الليبية، حيث حظي اللواء المتقاعد خليفة حفتر باستقبال متكرّر من ابن سلمان، ودعم أيديولوجي ولوجستي من «الجماعة المدخلية» السلفية ذات الامتدادات السعودية، من دون أن يصل الأمر إلى دعم عسكري «صريح»، كما هو الحال بالنسبة إلى الإمارات.
النهج التقليدي
لا تزال الاستثمارات السعودية في أفريقيا بالغة الضآلة قياساً إلى حجم الاقتصاد السعودي. إذ إن عامود هذا الاقتصاد، أي شركة «أرامكو»، ليس لديها أيّ استثمارات في القارّة، في الوقت الذي تنتشر فيه هناك شركات قطرية وكويتية باستثمارات مباشرة، وإماراتية عبر شراكات مع عمالقة الطاقة الدوليين مثل «إيني» و«توتال». ويتركّز النشاط السعودي في الاستثمار الزراعي، عبر الاستحواذ على أراضٍ زراعية خصبة، لا سيما في مثال البليونير السعودي - الإثيوبي محمد العمودي وشركته «النجم السعودي للتنمية الزراعية» (SSAD)، في سياق مبادرة الملك عبد الله للاستثمار السعودي الزراعي في الخارج (التي أُطلقت في عام 2009). ولا يقتصر هذا النشاط، الذي يُعدّ أقرب إلى استنزاف الموارد، على إقليم القرن الأفريقي وشرق أفريقيا (لاعتبارات القرب الجغرافي والوفرة المائية بالأساس)، إذ تنشط المملكة أيضاً في غرب أفريقيا في دول مثل السنغال وغانا، بطرح مزيد من وعود الاستثمار الزراعي (ومشاريع الطاقة والقطاع المصرفي وصناعة الملابس).
توقّع أن تتراجع المملكة عن «تنويع» مصادر السلاح على رغم الحوافز التي تُقدّمها لها جنوب أفريقيا
وفيما تنجز السعودية استثماراتها الزراعية بتكاليف منخفضة وعائدات مضمونة (كما في إثيوبيا والسودان وتنزانيا والسنغال على سبيل المثال)، فإنها تُقدّم وعوداً متكرّرة باستثمارات في قطاعات أخرى من دون ترجمتها على الأرض. نموذج من ذلك إعلان وزير البترول السابق، خالد الفالح، في عام 2020، نيّة بلاده بناء مصفاة بترول عملاقة بسعة 300 ألف برميل يومياً في جنوب أفريقيا (أو نصف احتياجات جنوب أفريقيا الحالية من منتجات البترول) بحلول عام 2028، وبتكلفة تتجاوز 10 بلايين دولار، إلّا أنه لا توجد أيّ مؤشّرات إلى انطلاق عجلة هذا المشروع فعلياً، بغض النظر عن الأزمة البترولية العالمية وتداعيات جائحة «كوفيد - 19» عالمياً وأفريقياً.
يتّضح، من القراءة السابقة، أن الوعود الاستثمارية السعودية تفوق منجزات الرياض في هذا الملفّ بمراحل، وأن التعويل لا يزال على النهج التقليدي بالاستثمار في قطاع الزراعة للحصول مباشرة على محاصيل وحيوانات حية لسدّ حاجة السوق السعودي المتصاعدة، وبعائدات أقلّ تراكمية للدول الأفريقية المستهدَفة. ومن غير المُتوقّع أن تُغيِّر الرياض هذا النهج في المستقبل القريب.
احتمالات التغيير
واجَه النظام السعودي، وفي قلبه ولي العهد، مأزق صعود إدارة أميركية جديدة غير ودّية تجاهه، بالنظر إلى اعتقاد أغلب عناصر الدائرة المحيطة بالرئيس جو بايدن أن الشراكة مع السعودية، وابن سلمان تحديداً، لم تكن ليُعوَّل عليها. لكن ثمّة فريقاً آخر يُشدّد، بحسب استقصاء عملي أجراه دانيال بنايم (وهو كاتب سابق لخطابات بايدن، ونشرت خلاصته «غارديان» في 6 آذار/ مارس الجاري)، على أهمية العلاقة مع الرياض وإن احتاجت إلى صرامة أكبر، أو قدر من «الحبّ الحازم».
اتّضحت من التعليقات التي أعقبت صدور تقرير المخابرات الأميركية في شأن مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، صعوبة الربط بين القضية واستبعاد ابن سلمان من وراثة الحكم، فيما بدا من الممكن وضع ردود فعل إدارة بايدن في خانة «ضبط» أداء ولي العهد مستقبلاً، في ما قد يُشبه تخلّي الولايات المتحدة عن الدعم غير المحدود لنظام «الأبارتهيد» في جنوب أفريقيا، حيث أتاح لها ذلك أن تظلّ حليفاً مهمّاً لنظام حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي».
على أيّ حال، تبقى المقاربات السعودية في أفريقيا، في الفترة المقبلة، محكومة بالتصوُّر الأميركي لـ«المصالح والأولويات المشتركة»، وقدرة الرياض على الوفاء بتعهُّداتها في مجال تعزيز السياسات الأميركية والغربية في ملفّات أفريقية مهمّة مثل «مكافحة الإرهاب» (امتنعت السعودية عن تقديم دعم ماليّ مباشر لعمليات مكافحة الإرهاب في إقليم الساحل بقيادة فرنسا وقوة G5 Sahel، وتراجَع دعمها للصومال لصالح أطراف إقليمية أخرى أبرزها تركيا)، والأزمة الليبية، وضبط «سوق مبيعات السلاح» في أفريقيا، وموازنة النفوذ الدولي والإقليمي المنافِس للوجود الأميركي والغربي في القارّة. مهمّات يمكن رصد تجلّياتها في عدد من الملفّات، أبرزها:
أمن البحر الأحمر
تبرز السعودية في مجال «صيانة» أمن البحر الأحمر (وبدرجة أقلّ مباشرة في عمق القرن الأفريقي)، باعتبارها ومصر أكبر الدول المطلّة عليه. وسعت الرياض إلى «مأسسة» هذه المهمّة، عبر تكوين مجلس للدول المطلّة على البحر الأحمر بالتنسيق مع القاهرة (دُشّن رسمياً في كانون الثاني/ يناير 2020). وهو ما يُتوقّع أن تُعزّزه المملكة بشكل كبير لاعتبارات أهمّها: مخاوف حلفائها الإقليميين وعلى رأسهم مصر، والتحسُّب لانفلات تداعيات التغيُّرات الحالية في إريتريا وإثيوبيا، واحتمالات تزايد النشاطَين الروسي والصيني في حوض البحر الأحمر سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على حساب النفوذ التقليدي للسعودية، وكذلك عودة الأخيرة بقوة إلى الالتزام بتعزيز المصالح والأولويات الأميركية والغربية في المنطقة في المقام الأوّل، ما يقتضي تراجعها عن تبنّي «سياسات مستقلّة» واستباقية وفق ما أتاحه لها الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب.
ويبدو أن السعودية، التي زار وفد من حكومتها الرئيس الإريتري أسياس أفورقي نهاية شباط/ فبراير الفائت، حيث أُعلِن تكوين ثلاث لجان فرعية لمناقشة مجالات التعاون الأمني بين البلدين، في صدد اتخاذ المزيد من الخطوات العملية لتمتين علاقاتها مع إريتريا، وضمان احتوائها، حتى لا تجنح نحو توثيق علاقات عسكرية مع أطراف دولية وإقليمية منافسة للرياض (في البحر الأحمر تحديداً) مثل روسيا أو تركيا. وهو ما يبدو متّسقاً مع توجُّه أميركي للاحتواء الشامل لدول القرن الأفريقي.
«مكافحة الإرهاب»
يُتوقّع أن تنخرط الرياض، بشكل أكبر، وبمشروطية شفافية أقلّ بطبيعة الحال، في الدعم المالي لجهود الولايات المتحدة والدول الغربية في «مواجهة الإرهاب» في القارّة. وفي ظلّ التطوُّرات الحالية في الصومال تحديداً، يُتوقّع أن تنشط السعودية مجدّداً في جهود «مكافحة الإرهاب» هناك، في مرحلة ما بعد الرئيس المنتهية ولايته محمد عبد الله فرماجو، من بوّابة دعم إعادة بناء الدولة الصومالية، وتعزيز الجهود المصرية (والإماراتية بمستوى أقلّ) المتزايدة في المسار نفسه لتحجيم النفوذ التركي في هذا البلد العربي الهامّ، وتقديم الدعم الكامل سياسياً واقتصادياً وأمنياً للرئيس المقبل الذي يُتوقّع أن يعمل على «موازنة» علاقات الصومال الإقليمية.
ملفّ التسليح
تَبرز السعودية في قائمة أهمّ مستوردي السلاح من الشركات الجنوب أفريقية. وقد كشف تقرير أعدّته «NPO Open Secrets» بعنوان «الاستفادة من المأساة: جرائم حرب جنوب أفريقيا في اليمن» (3 آذار/ مارس 2021)، أن بريتوريا صدّرت عبر شركات السلاح فيها أسلحة للسعودية عند انلاع الحرب على اليمن (2015) بقيمة 2.81 بليون راند (183 مليون دولار)، أغلبها من إنتاج شركة «Rheinmetall Denel Munitions» (التي تواجه حظراً لأنشطتها في ألمانيا على خلفية صادراتها واستثماراتها في السعودية وتركيا)، وأن السعودية والإمارات تتصدّران منذ عام 2014 قائمة مستوردي السلاح من الشركات الجنوب أفريقية (وصلت نسبة وارداتهما مجتمعة إلى 40% من إجمالي صادرات جنوب أفريقيا). ويُتوقّع أن تعود السعودية بقوة إلى استيراد مزيد من الأسلحة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وأن تتراجع عن سياسة «تنويع» مصادر السلاح، على رغم الحوافز القوية التي تُقدّمها لها جنوب أفريقيا منذ أيار/ مايو 2020.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2021/03/11