حديث المبادرة السعوديّة
عبدالله السناوي
لم تكن هناك مفاجأة في ما أُطلق عليها "المبادرة السعودية للسلام في اليمن".
بفداحة المأساة الإنسانية، تصاعدت الضغوطات الدولية دبلوماسياً وإعلامياً لإنهاء الحرب، التي أهلكت البلد لست سنوات كاملة، أسقطت مئات آلاف الضحايا من مواطنيه وأفشت الأوبئة والمجاعات في جنباته.
استجابت المبادرة للضغوطات الدولية، لكنها لا تؤسس بذاتها لرؤية جديدة تسمح بالانتقال إلى أوضاع طبيعية، أو شبه طبيعية، تعيد السلام إلى بلد ممزّق ومنكوب.
مدخل إلى الحل، لكنها ليست حلاً.
كانت الحرب قراراً سعودياً منفرداً رغم أنها جرت باسم "التحالف العربي"... لم تُخطَر الدول التي ذُكرت أسماؤها في ذلك التحالف إلا قبل ساعات قليلة من بدء العمليات العسكرية.
كان ذلك استعراضاً مفرطاً للقوة والنفوذ والقدرة على حشد الدول العربية تحت قيادتها، لم يتحسّب لما يمكن أن يترتب على المغامرة العسكرية فوق الأراضي اليمنية من تبعات وعواقب وخسائر فادحة.
استبقت العمليات العسكرية قمة عربية في شرم الشيخ صباح انعقادها، كأنها أرادت أن تقول إن قيادة العالم العربي آلت إليها وحدها، بإضافة استخدام السلاح خارج حدودها لأول مرة في تاريخها إلى قوتها الاقتصادية.
لم توافق النتائج الرهانات، وقوّضت الحرب سمعتها بفداحة.
بصورة أو أخرى بدا الطرف الآخر في المواجهة العسكرية بوضع "المنتصر"، الذي يرفض مبادرة وقف إطلاق النار ويضع شروطاً قبل الذهاب إلى موائد الحل السياسي.
كان تغيّر الإدارة الأميركية من "دونالد ترامب" إلى "جو بايدن" دافعاً أساسياً لإعلان المبادرة السعودية، خشية تصاعد الضغوط عليها في ملفات أخرى تتعلق بمستقبل ولاية العهد على خلفية قضية مقتل الصحافي السعودي "جمال خاشقجي".
صعّدت إدارة "بايدن" إعلامياً خطابها السياسي، غير أنها توقفت في منتصف الطريق بدواعي المصالح الأميركية التي لا يمكن التضحية بها في العلاقات الاستراتيجية التقليدية مع السعودية.
هكذا جرى التركيز على ملف اليمن وضرورة وقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية بالإيعاز للرياض على التقدم بمبادرة توقف شلالات الدم.
مقاربة "بايدن" تختلف عمّا اعتاده "ترامب"، الذي أغفل المأساة اليمنية وأضفى حماية على العمليات العسكرية، التي جرت بتوسّع.
لم يكن هناك شك في واشنطن، أو الرياض نفسها، أن "الحوثيين" سوف يرفضون المبادرة، على الأقل حتى يستكشفوا أبعاد اللعبة الجديدة وحسابات الأطراف المتداخلة للصورة التي يمكن أن يكون عليها المستقبل.
النقاط الإجرائية المقترحة في المبادرة السعودية يمكن بصورة أو أخرى التوافق عليها، خاصة "وقف القتال على كل الجبهات تحت رقابة الأمم المتحدة".
هذا طلب دولي وإنساني لا يمكن لأي طرف متداخل في الأزمة اليمنية تحديه، أو رفضه، غير أن إنفاذه يتطلب رؤية سياسية أوسع مدى وتفاهمات في الكواليس حول أسس وقواعد الحل السياسي.
النقاط الإجرائية الأخرى كإعادة فتح مطار صنعاء جزئياً والسماح باستيراد الوقود والمواد الغذائية عبر ميناء الحديدة وإيداع عوائد الضرائب والجمارك في حساب مشترك بالبنك المركزي، يمكن التوافق عليها بتعديل أو آخر في مفاوضات الكواليس، التي سوف تستضيفها العاصمة العمانية مسقط، على ما هو معلن.
دخول مسقط على خط حل الأزمة يُذكر بأدوار وظيفية مماثلة لعبتها في أزمات إقليمية سابقة كالتمهيد لاتفاق حول المشروع النووي الإيراني.
القضية ليست في ما هو إجرائي بقدر ما في الترتيبات السياسية التي سوف تجري تالياً وفق السيناريو المقترح.
رفض "الحوثيين" للمبادرة السعودية ليس موقفاً نهائياً، يُعلن بعده موتها إكلينيكياً.
إنه موقف تفاوضي لتحسين المراكز قبل الدخول في المسار السياسي والتوافق عليه.
بمعنى آخر، الرفض نوع من الاستثمار السياسي في الورطة السعودية طلباً لرفع الحصار الجوي والبحري، أو تعظيم المكاسب مقابل أية مرونة سياسية يتطلبها التعاطي مع بنود المبادرة.
هذه أصول اللعبة، التي يتبعها "الحوثيون".
إدارة التفاوض بالتصعيد.
كلما ارتفع مستوى الضغط الدولي على السعودية بوقف التسليح، أو التلويح بالعقوبات، زادت الضربات التي يوجهونها بالمسيّرات على منشآتها النفطية وتصعيد العمليات البرية للسيطرة على مواقع استراتيجية يمنية جديدة، أهمها الآن مأرب.
معضلة السعودية المنهكة والمضغوطة أنها ليست بوارد أي تصعيد مضاد.
يكاد يكون ممنوعاً عليها أية عمليات طيران بداعي ما جرى سابقاً من بشاعات نالت من المدنيين العزّل.
الأسوأ أن الصراعات، التي تمّت بين أطراف التحالف، الذي تقوده، في عدن بالذات، نالت بفداحة من الحكومة الشرعية، أضعفتها ومزّقت صفوفها، ووضعت مصيرها في مهبّ المساومات.
في إدارة التفاوض بالتصعيد استخدم "الحوثيون" قاموساً سياسياً لافتاً، فالسعودية طرف في الأزمة حرباً وحصاراً لا وسيطٌ يقترح تسوية وسلاماً.
"المبادرة لا ترفع الحصار كاملاً الذي يتوجب رفعه قبل البت في أي اتفاق سلام".
هكذا يجري إحكام حلقات الورطة السعودية في اليمن.
بقوة الحقائق سوف يكون هناك حل سياسي في نهاية المطاف.
"الحوثيون" طرف رئيسي كمكوّن يمني فاعل وحاضر ومؤثر لا يمكن استبعاده بغضّ النظر عن أية اعتبارات أخرى.
بحكم الصلات الخاصة التي تجمع جماعة "أنصار الله"، "الحوثيين" بإيران، فإن لموقفها حساباً واعتباراً في تفاهمات الكواليس، التي سوف تجري في مسقط.
حسب ما هو معلن فإنها "تدعم أية خطة سلام ترفع الحصار عن اليمنيين وتفضي إلى حل سياسي يؤدي إلى تشكيل حكومة وطنية".
كانت تلك صياغة دبلوماسية حاولت أن تدعم موقف "الحوثيين" دون أن تتبنّى مصطلحاتهم.
لا أحد في الإقليم يمانع في ضرورة التوجه إلى حل سياسي للأزمة اليمنية، لكن بأية حسابات ووفق أية مصالح؟
هنا هو السؤال الملحّ.
إذا أردنا حلحلة الأزمة اليمنية المستعصية فلا بد أن نبحث عن مفاتيحها بالحوار في حسابات وتعقيدات الإقليم.
بأية نظرة على خرائط الأزمات في الإقليم فإنها متداخلة، يصعب حلها كما لو كانت جزراً منفصلة.
في خلفيات الأزمة اليمنية وكواليسها المحتملة حسابات أخرى.
الأميركيون مشغولون بالاتفاق النووي الإيراني كأولوية في إدارة "بايدن" والسؤال الرئيسي في الأعصاب المشدودة مع الإيرانيين: من يأخذ الخطوة الأولى أولاً لحلحلة الموقف المأزوم؟.. بأية شروط وتحت أي سقف في حسابات الإقليم؟
الإيرانيون بدورهم يوظفون علاقاتهم الإقليمية لتحسين موقفهم التفاوضي في أزمة الاتفاق النووي، وأعينهم على حسابات السعودية وتركيا وإسرائيل بقدر تداخلها في أزمات الشرق الأوسط الأخرى المتفاقمة.
يصعب الخروج من المحنة اليمنية بحل سياسي إذا لم تكن هناك تفاهمات إقليمية بالحوار المباشر بين اللاعبين المتصادمين، السعودية وإيران، فإنكار الحقائق لا يساعد على حلحلة الأزمات المتفاقمة.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2021/03/25