الربيع العربي والنهايات
يوسف مكي ..
التحركات الدولية المكثفة هذه الأيام تشي بأننا على أعتاب مرحلة جديدة مغايرة. فهناك في المشهد ما يشبه موسم التسويات، وجميعها إن قدر لها النجاح، فإنها مؤشر على أفول تداعيات الربيع العربي
يطغى على عنوان هذا الحديث استخدام المجاز، فالربيع العربي مصطلح وافد جرى تعميمه، وسلم الجميع به، رغم كونه مضللا ومتحيزا. أما النهايات فأقل ما توصف به أنها مفردة غير تاريخية، لأنها تفترض قطعا زمنيا مع مرحلة سابقة، وذلك ما لا يتسق مع حقائق التاريخ. لكننا مضطرون لاستعمالهما، لأن الحديث يتناول فترة معينة، هي فترة البراكين العاتية، التي مرت بالوطن العربي، وبدأت منذ نهاية 2010، وبداية 2011، وقد استمرت تداعياتها وإسقاطاتها بقوة على الواقع العربي.
أما النهايات، فالرديف لها في هذا الحديث هو المآلات، ورغم قتامة المشهد وكآبته، فإن التحركات الدولية المكثفة، في هذه الأيام، تشي بأننا على أعتاب مرحلة جديدة مغايرة. فهناك في المشهد ما يشبه موسم التسويات. جهود لتسوية الأزمة السورية عبر جنيف 3. ومباحثات مباشرة في الكويت بين وفد الحكومة اليمنية، ووفدي صالح والحوثيين، برعاية مباشرة من أمير الكويت. واتفاق دولي على محاصرة الإرهاب في ليبيا، ودعم حكومة وحدة وطنية. وهبوب رياح في العراق، باتجاه يناكف مشاريع التفتيت والقسمة، وتشييد عملية سياسية جديدة، على أسس وطنية. وجميعها إن قدر لها النجاح، فإنها تؤشر على أفول تداعيات "الربيع العربي"، ومن شأنها أن تعيد الاعتبار لمصطلحات غطيت بالأدخنة التي خرجت من نيران الحرائق، ومن غبار اللهاث، نحو المستقبل العاثر.
لقد كان العمل العربي المشترك، والحراك الشعبي العربي، والقضية الفلسطينية، ومصطلحات أخرى، كالعدل الاجتماعي والغنى والفقر، والدولة الوطنية، ومشاريع النهضة، من ضحايا مرحلة "خريف الغضب"، الذي مر على منطقتنا في السنوات الخمس المنصرمة. وكان البديل عنها مصطلحات ناكسة، ضمت تعابير ما قبل تاريخية، طائفية وجهوية وعشائرية وقبلية، ودينية، وشملت مفردات الفيدرالية والقسمة الطائفية، وأمراء الحرب والطوائف.. وليس على المرء إذا ما أراد التحقق من ذلك، سوى توجيه النظر نحو الخريطة البشرية للوطن العربي المقهور، ليتأكد من صحة ذلك.
فهي في العراق، تكتسي ثياب القسمة بين الطوائف والأقليات القومية، والفيدرالية، ونهب أكثر من 975 مليار دولار، ضاعت أثمانها بين الطوائف والعشائر، والكل متهم بالفساد، والفاسد معلوم مجهول. وهي في سورية دمار وخراب، وعودة بالبنية التحتية للبلاد إلى العصور الوسطى، وليتحقق التماهي الراهن في الشكل والمضمون بين عاصمتي الأمويين والعباسيين. وفي كلا البلدين، يشتعل بضراوة وقسوة ما هو أقرب للحروب الأهلية، وفي حمأتها تغيب العناصر التي صنعت تاريخ هذه الأمة، والتي كان للبلدين شرف الريادة في التعبير عنها.
وفي البلدين أيضا، يطل الإرهاب بجبروته، وتشكل داعش دولتها على أراض ومحافظات عديدة سقطت تحت سيطرتها، تحت وطأة الفساد، وغياب الدولة، وتصويت الجنود بأقدامهم ضد الحرب، مستمدة مسماها وعنوانها من حضورها الدامي بالبلدين. والقصف الأممي مستمر للقضاء على داعش. وأكثر من 15 مليونا من مواطني البلدين، يعيشون في الشتات بلا مأوى والعالم ينظر لهم كوباء داهم يسعى الجميع للتخلص منه.
وفي اليمن، محاولات عديدة حثيثة لتفتيت اليمن، وحرب بين موالاة ومعارضة، وتخندق لداعش والقاعدة، وحراك جنوبي يسعى لخلع الشطر الجنوبي عن المركز، ومطالبات بدولة مستقلة في حضرموت. وبالنسبة للمواطن العادي، والكتلة الصامتة، فإن الأمل يخبو كل يوم في عيش كريم ولقمة سائغة. والتعابير هنا يختلط فيها القبلي والطائفي والجهوي، ولا حاجة إلى مزيد.
في ليبيا سقط القذافي، ومعه سقطت ليبيا، وكأن استمرار الجغرافيا رهن بحضور الزعيم! دمر الناتو البلاد، ثم تركها لعصابات التطرف والإرهاب. فكانت النتيجة تحول البلاد إلى 19 إمارة، كل منها يدعي امتلاك الشرعية، ويعد بمستقبل من خارج التاريخ والمكان. والأمل يبهت بالنجاة بالنسبة للمواطن الليبي، ولا من معين أو مجير.
بدا المشهد جملة طلاسم ومجموعة شفرات بحاجة إلى تفكيك، مع أن قراءة المشهد، منذ حرائق 11 سبتمبر 2001، وإعلان الرئيس الأميركي جورج بوش الابن الحرب العالمية على الإرهاب، كان واضحا وجليا. فقد أعدت الخرائط والاستراتيجيات في العلن، ولكن الضحية لم يصدق ذلك، واعتبر ما يعد له في خانة نظرية المؤامرة. وظلت الضحية ترفض ذلك حتى بعد استباحة عاصمة العباسيين، ونهب متاحفها وحرق مكاتبها وجامعاتها. وحتى يومنا هذا، هناك من يرفض تصديق ما كان، معتبرا الطائرات وصواريخ كروز والقنابل الانشطارية التي قصفت بغداد وطرابلس ألعابا إلكترونية، وربما في أسوأ الحالات ألعابا نارية.
وأغرب ما في هذا المشهد، أن القوى الكبرى، التي رفضت تاريخيا النظر لنا باعتبارنا أمة واحدة، يجمعها تاريخ وجغرافيا مشتركة ولغة واحدة، وصنفتنا عالما عربيا، بثقافات وأجناس مختلفة. لكنها في طرفة عين تناست تنظيراتها التي عممتها عقودا طويلة، ووضعتنا في كفة واحدة، حين أطلقت تعبير الربيع العربي، على بلدان لا يجمعها جامع من وجهة نظرها.
لكن لتوازنات القوة أحكامها، فتوازنات الثنائية القطبية، ثبتت الكيانات الوطنية، التي أقرها مقص المحتل في "سايكس بيكو"، وما يماثلها من اتفاقيات. أما الأحادية القطبية، فكانت كما تكشف انفلات مارد الكاوبوي من عقاله، وبالنسبة لنا نحن العرب، عنت تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ ومصادرة الكيانات والهويات الوطنية.
تغيرات كبرى على خارطة صناعة القوة في العالم بدأت تعبر عن نفسها بالأعوام الأخيرة. وحين تتغير توازنات القوى، فإن ميزان هذا التغير يعبر عن نفسه في مجال السياسة. بروز للتنين الصيني وعودة قوية للدب القطبي، ومنظمات جديدة تستند على أسس عسكرية وسياسية واقتصادية أخذت بالتشكل، وعودة قوية للتعددية القطبية، تترجم ذاتها في تسويات تاريخية، سيكون هذا الجزء من العالم في القلب منها.
ولأننا لم نكن صناع قرار من قبل، فإن التغير في موازين القوة يفتح لنا بوابات أمل جديدة، لعل موسم التسويات هو بدايتها... ولعلها تكون موسم الأفول إلى الأبد لخريف العرب.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2016/05/04