آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
عبد الباري عطوان
عن الكاتب :
كاتب وصحفي سياسي فلسطيني رئيس تحرير صحيفة رأي اليوم

تفجيرات بروكسل رسالة لأوروبا وأمريكا: “بضاعتكم ردت إليكم”

 

 عبد الباري عطوان

اهتزت القارة الأوروبية والعواصم العالمية منذ صباح اليوم الثلاثاء من جراء التفجيرات الانتحارية التي استهدفت مطار بروكسل، ومحطات مترو أنفاق أخرى، وأدت إلى مقتل وجرح العشرات، فحالة الطوارىء جرى إعلانها في مختلف المطارات ومحطات القطارات، وباتت عملية السفر محفوفة بالصعوبات، وإجراءات التفتيش الأمني المشددة للغاية خوفا من هجمات مماثلة في عواصم أخرى.

 

هذه التفجيرات التي جاءت بعد أشهر معدودة من نظيرتها في باريس، وأربعة أيام من اعتقال صلاح عبد السلام، أحد أبرز العقول المخططة لها بالصدفة، وبعد مكالمة هاتفية مع أحد أصدقائه في بلجيكا، تؤكد على مجموعة من النقاط نوجزها باختصار شديد كما يلي:

 

أولا: تثبت أن “الدولة الإسلامية” التي تشير معظم أصابع الاتهام إلى مسؤوليتها عن هذه التفجيرات، أنها أقوى بكثير مما يتوقعه الخبراء العسكريون والأمنيون في الغرب، وأن أكثر من عشرة آلاف غارة جوية على مواقعها في سورية والعراق، وأخيرا في ليبيا، لم تضعفها بالشكل المأمول غربيا.

 

ثانيا: نجحت هذه “الدولة”، وعلى مدى الـ18 شهرا الماضية في تجنيد العشرات، وربما المئات، من الشبان العرب والمسلمين في القارة الأوروبية، وأماكن أخرى في العالم، من خلال الاتصال المباشر، أو عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ووفرت لهم التدريب على كيفية صنع المتفجرات والأحزمة الناسفة.

 

 

ثالثا: تكشف تفجيرات بروكسل، ومن قبلها باريس، أن هذه الهجمات ليست من تنفيذ أفراد “يائسين” أو “محبطين”، وإنما من قبل شبكة من الخلايا العنقودية المنتشرة في عدة عواصم أوروبية، وتتواصل قياداتها مباشرة مع مشغليها في الرقة والموصل، وأخيرا في سرت، المقر الثاني لـ”الدولة الإسلامية” في شمال أفريقيا.

 

رابعا: نجحت “الدولة الإسلامية” في الانتقال بسرعة إلى تنفيذ إستراتيجية نقل عملياتها العسكرية إلى الخارج، وبالتحديد إلى عمق الدول التي تشارك في التحالف الستيني الذي يحاربها بقيادة الولايات المتحدة، أي أنها انتقلت من مرحلة “التمكن” في “أراضيها” في سورية والعراق، إلى “التمدد” في اتجاهين: الأول، أوروبيا، للقيام بالأعمال الانتقامية، والثاني، الجوار الأوروبي في المغرب الإسلامي، جغرافيا وبشريا، من خلال تجنيد خلايا من أبنائه تقيم في الساحل الشمالي من البحر المتوسط.

 

خامسا: هجمات بروكسل هذه التي يعتقد أن خلية “مولينبيك” تقف خلفها، ونفذتها لأسباب عديدة، أبرزها اعتقال صلاح عبد السلام، أحد أبرز قياداتها، قد تشرع بتنفيذ الخطط الموضوعة للتدخل عسكريا في ليبيا، على أمل القضاء على التجمعات الجديدة لهذه “الدولة” و”أماراتها” في سرت ودرنة والكفرة، حيث تشير التقديرات إلى وجود أكثر من عشرة آلاف من مقاتليها يتنشرون في الساحة الليبية، نسبة كبيرة منهم من رجال القبائل الأشداء المعروفين بولائهم للنظام السابق، وجرى تهميشهم بهذه التهمة، إلى جانب بعض العناصر الأمنية التابعة لكتائب القذافي.

 

***

الخطأ الكبير الذي وقعت فيه الحكومات الغربية  أنها أرسلت طائراتها الحربية وقواتها الخاصة إلى العراق وسورية وليبيا، لـ”اجتثاث” “الدولة الإسلامية”، وقصفها واغتيال قياداتها طوال الـ18 شهرا الماضية، ولم نتوقع مطلقا أقدامها على أعمال انتقامية، “إرهابية” على هذا التدخل العسكري، ويتضح ذلك من خلال ارتخاء الإجراءات الأمنية في مطاراتها، والأماكن الحساسة الأخرى، الأمر الذي سهل عملية اختراقها بسهولة.

 

نقول ونكرر للمرة الألف، أن الحلول الأمنية التي تبنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها للقضاء على الإرهاب والعنف ليست كافية لوحدها، طالما لم توازيها، وتكملها، حول سياسية ذات نفس طويل تعترف أولا بالأخطاء الكارثية التي ارتكبتها هذه الدول في المنطقة، وأولها تغيير أنظمة عربية بالقوة العسكرية لمصلحة إسرائيل، وتنفيذا لثأرات وأحقاد سياسية ودينية وعقائدية، ودون تقديم النماذج البديلة الأفضل في الوقت نفسه.

 

ما لم يفهمه الغرب أن “الدولة الإسلامية” في بداياتها لم يكن من بين أدبياتها، المرحلي على الأقل، شن هجمات إرهابية على العواصم الغربية، وكان إسقاط الأنظمة العربية التي تصفها بـ”الفاسدة” و”الكافرة”، الأولوية المطلقة بالنسبة إليها، لكن التدخل العسكري الغربي بقيادة أمريكا لحماية هذه الأنظمة وتثبيتها، هو الذي أدى إلى حدوث انقلاب في هذه الأولويات، وتفجيرات باريس وبروكسل هو التطبيق المباشر لهذا التغيير، أو الانقلاب.

 

مشكلة الحكومات الغربية أنها تنحاز إلى الأنظمة العربية الفاسدة ضد الشعوب خدمة لمصالحها، وهي مصالح “انتهازية” تتركز في صفقات الأسلحة، والتعاون الإستخباري على هذه الأنظمة ضد شعوبها، ومواقف الغرب في ليبيا وسورية والعراق، وأخيرا اليمن، على وجه الخصوص، تؤكد هذه النظرية.

 

ما كان يصلح من أساليب تضليل وخداع وكذب في الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، لم يعد صالحا بعد مئة عام على اتفاقية “سايكس بيكو”، فلم يعد أهل المنطقة بدوا رحلا، والغالبية الساحقة منهم أميون، ويمكن تطويعهم وتشكيلهم بسهولة وفق رغبات “شاويش” بريطاني أو فرنسي، كما أن وسائل المقاومة والرفض تغيرت أيضا، ولم تعد الطائرات الحديثة تحسم الحروب في ساعات أو أيام، وإلا لما استمرت أعمال القصف الأمريكية لتنظيم “الدولة الإسلامية” عاما ونصف العام دون نتائج تذكر، ولكان تحالف الحوثيين وصالح في اليمن قد رفع الرايات البيضاء في الأسبوع الأول لـ”عاصفة الحزم”، ولما عادت ليبيا شوكة في الخاصرة الأوروبية بعد خمس سنوات على تدخل حلف “الناتو” العسكري فيها.

 

***

الحلول الأمنية التي تتبعها الحكومات الغربية لحماية مطاراتها ومصالحها العامة مشروعة ومطلوبة، ولا بد من اتخاذها لتأمين أرواح مواطنيها، ولكنها ستظل محدودة ومؤقتة، وغير عملية على المدى البعيد، فهناك عشرة ملايين مواطن مسلم في أوروبا، وهؤلاء يمثلون امتدادا لنظرائهم الذين يعانون، أو نسبة منهم، من أخطاء التدخلات العسكرية الغربية الكارثية في بلدانهم، وعلينا أن لا ننسى أن “الدولة السلامية” هي أحد نتائج هذه التدخلات.

 

بربكم قولوا لنا، كم قتيلا بريئا قتلته طائرات التحالف الستيني أو السبعيني، في الرقة ودير الزور والموصل وغيرها؟ نعرف أنكم لا تريديون الإجابة.. سنبسط لكم الأمر، فإذا كنتم أغرتم عشرة آلاف مرة على هذه المدن، وافترضنا أن كل غارة قتلت بريئا واحدا، إنسانا مدنيا ليس له علاقة بـ”الدولة الإسلامية”، وربما يكرهها، فكم سيكون عدد هؤلاء؟ عشرة آلاف إنسان؟.

 

نتعاطف كليا مع ضحايا هجمات بروكسل، وكلهم أبرياء لا ذنب لهم، وندين كل هجوم إرهابي يستهدف أمثالهم، أيا كان مصدره،  ومن يقف خلفه، ولكن لنا ضحايا أبرياء أيضا، ومن حقنا أن نتعاطف معهم، وأن نطالبكم بذلك أيضا، فهم بشر، ومن لحم ودم، ولهم أقارب وأمهات وآباء وأبناء وزوجات.

 

تفجيرات بروكسل الإرهابية، ومن قبلها تفجيرات باريس، يجب أن تكون مقدمة لمراجعة سياسات أوروبية وأمريكية قصيرة النظر، وضعها أناس يريدون توظيف الغرب وقدراته العسكرية الهائلة لمصلحة دولة اسمها إسرائيل، بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، وبما يشجعها على رفض وإجهاض أي عملية للسلام والتعايش، وطالما استمرت هذه السياسات ستستمر التفجيرات، ومهما لغت الإجراءات الأمنية من التشدد، ولعل مقابلة أوباما مع مجلة “انتلانتيك” تكون بداية هذه المراجعة، وليس هنا مجال للحديث بالتفصيل عنها.

 

هذه التفجيرات ومنفذوها، رسالة إلى أوروبا وأمريكا تقول بلغة دموية فصيحة جدا “بضاعتكم ردت إليكم”.

 

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2016/03/23

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد