آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
علي الديري
عن الكاتب :
كاتب بحريني

إلى صديقي حسن المصطفى: هل يجب ألّا نخاف؟

 

علي الديري

صديقي حسن المصطفى،

ما زلت أسترجع أيّامنا الجميلة في نهاية التسعينيات وبداية الألفية، الأيّام التي وعدتك فيها بالسمك الصافي متى تم الإفراج عن جواز سفرك وسُمح لك بالسفر بعد الإفراج عنك في قضية أبراج الخبر. خضنا أحلام التغيير والقراءة والخروج على تكويننا الشيعي، شاغبنا كثيراً وتجاوزنا خطوطاً وردية وحمراء.

ما زلت أحمل ودّاً لهذه الأيام ولك، لكن اسمح لي أن أراجع شيئاً ممّا دعوت له في مقالاتك الأخيرة في «النهار العربي». خلافي معك لا في متبنياتك الثقافية والفكرية، لكن في مصادراتك السياسية.

أقول مصادراتك السياسية بالمعنى المنطقي، لأنك تصادر المقدّمات السياسية التي هي الأزمات والمشكلات المبتلى بها في هذا الخليج الطائفي كما سمّاه صديقنا الباحث في جامعة كامبريدج البريطانية توبي ماثيسن، الذي أعد أطروحته للدكتوراه عن الشيعة في الخليج.

تقول: «الخوف الوجودي» الذي لديكم لا معنى له، فالتحديث في الخليج، خصوصاً في السعودية، أسكت الأصوات المتطرفة التي تسبب لكم الخوف، فقد تم منعها من التحريض بـ«قوة القانون»، وباتت عمليات «التكفير» أمراً محظوراً يحاسبُ مرتكبه.

وتطمئن: لا تخافوا لأنه تمّ ترسيخ «المواطنة الشاملة»، والسياسات التي تكرّس مبدأ «تكافؤ الفرص» وإشراك كل المكونات المجتمعية في مؤسسات الدولة الأمنية والمدنية والعسكرية والحكومية.

أنت تصادر شعورنا بمشكلة الخوف في السعودية والبحرين والخليج، لأنك تريدنا أن نشعر بأن هناك مواطنة شاملة، إنك تجعل المشكلة حلاً، أنت لم تقدّم سبباً حقيقياً لنستبدل شعور الخوف بالأمن. تعبير «لا تخافوا» هو نفسه تعبير «دولة المواطنة» لكنك صغته بشكل آخر، كأنك تقول دولة المواطنة لأن دولة المواطنة.

كيف تريدني لا أخاف ودولة «المواطنة الشاملة» أسقطت جنسيتي لأني عارضتها بكلماتي وكتبي؟ كيف تريد المعارض السني في السعودية لا يخاف وهو يعرف أن المنشار الذي قطّع خاشقجي مسلول عليه؟ كيف تريد لمثقف ألا يخاف وهو يعرف أن رفع شعار «أنا أحتج... إذاً أنا آدمي» يغيّبك سبع سنوات في سجون النسيان، كما هو الأمر مع الكاتب نذير الماجد الذي قضى العقد الماضي من القرن الواحد والعشرين في ظلام سجون «المواطنة الشاملة»؟

نذير الماجد صديقنا، وهو يحب علم الكلام الجديد والنقد الثقافي ويحب التنوير، ويحلم بدولة المواطنة وقرأ عبد الكريم سروش، وقرأ محمد أركون، ومارس «النقدانية» على أعلى مستوياتها ضد شيعيته ومذهبه وطائفته، فعلَ كل متطلبات الطبخة الثقافية التي دبّجت بها مقالتك (نقدُ «الشيعيّة السياسية» ليس اعتداءً على التشيّع!) وأنا كذلك طبّقت برنامج الطبخة التي أوصيتَ بها في مقالتك، طبقتها حتى احترقت، والنتيجة تعرفها، يتخطّفنا الخوف والهجرة والسجن ومقتضياتهم. نذير في السجن وأنا في كندا للعام السابع بلا جنسية. أحمل ورقة سفر لا تؤهلني لأكون مواطناً حتى في أرقى دولة فاشلة.

يمكننا ألا نخاف في حالة واحدة، حين نفعل ما تفعله بقلمك، نحصّنه بمدح ولي الأمر، ونسخّره في خدمته، ونسلّه ضد أعدائه السياسيين. لا يمكنك أن تُؤمّن نفسك من الخوف إلا بالخوف، الخوف من ربّ المواطنين، ذاك الرب الذي يحمي وطننا بمنشار قاطع.

الأقليات الخائفة، ليست جماعات دينية أو عرقية فقط، هي جماعات يجمعها الخوف، يوحّدها في رابط وطني واحد. كل معارض خائف وكل صاحب رأي خائف، وكل من تسوّل له نفسه الجهر بالقول خائف.

من تنتقدهم يا صديقي لا يمكنهم الرد عليك، لأنهم من جانب يخافون يردون على شخص يمثّل وجهة نظر السلطة السياسية، ومن جانب آخر المواطنة المزعومة التي تتنعّم بها أنت في نقدهم لا يملكون مثلها لينتقدوك بشكل صريح وفقاً لقناعاتهم. أنت لا تحاور أحداً في الحقيقة أنت مجرّد تُسمعهم صوتك وإملاءاتك مستنداً إلى قوة المنشار التي قطعت خاشقجي وهم لا يملكون مثل هذا الامتياز.

أنت تنشرهم وتجلدهم بحكم موقعيتك في قنوات ولي الأمر، وهي موقعية لا تؤمن بالرأي الآخر، لذلك لا يمكنني أن أرد عليك فيها، أو لنقل لا يمكنهم أن ينشروا نقدي إليك، ليس لأنك شخص مهم بالنسبة لهم، لكن لأنك موظف في آلة لا تحسن الإصغاء لرأي مختلف.

تدعونا لنمارس النقد والمراجعة، من موقع الوهابية التي تدافع عن واجهتها السياسية، لا يمكنني أن آخذ دعوتك خارج الاصطفاف السياسي الذي وضعت نفسك فيه، أو إن شئت «موضعت» لتكون للكلمة نكهة ثقافية تناسب مقالتك الطليعية.

تخففت السياسة السعودية من نسختها الوهابية التكفيرية التي دشنتها منذ الدولة السعودية الأولى (1745-1818) لكنها لم تتخلص من أهم أركان «إله التوحش» الذي تفرض عقيدته «طاعة ولي الأمر» على الرعية كلها.

وهذه الطاعة تستلزم جعل الدين في طاعة الحاكم السياسي، وتكييف الدين على مقاس سياسته، حتى لو تطلّب الأمر في الحد الأدنى تسخير صورة إمام المسجد الحرام لخدمة مشاريع الترفيه التي تطلبها سياسة ولي الأمر، وفي الحد الأعلى تسخير فتاوى هيئة كبار العلماء لشن حرب مدمرة حازمة على بلد عربي مسلم جار، أو لقتل وإعدام المعارضين السياسيين.
طاعة ولي الأمر العمياء كما في نسختها الوهابية، تعني الحكم الشامل لا المواطنة الشاملة، تعني إثارة الخوف والذعر، لا الأمن والطمأنينة والثقة.

طاعة ولي الأمر، تعني الخضوع وعدم المعارضة، وتعني تسخير الصحافة والدين والإعلام والمثقفين (كما هي حالتك) لطاعة الحاكم الفرد، ولأقولها لك بشكل أكثر فجاجة، تعني في حالتك، وكما تفعل الآن، أن تعادي أهلك ومجتمعك (البراءة من أعداء ولي الأمر) والطاعة العمياء للحاكم (ولاية ولي الأمر). لا توهم نفسك أن الطاعة تعني أن يكون لديك حس نقدي من جماعتك ومجتمعك، لأن طاعة ولي الأمر تعني صفر مسافة بينك وبين السلطة السياسية، تعني أن تكون في صفّه ضد كان من كان.

ذلك هو جوهر الوهابية الذي لا يمكن أن يتخلى عنه ولي الأمر، طاعته الواجبة بحسب شرعها، لا طاعة الدستور والقانون، ولي الأمر هو الدستور وإرادته مرجع الرعية المبايعة له في العسر واليسر، والمنشَط والمكرَه.

الجرعات الثقافية التي دبجت بها مقالاتك الأخيرة، لتصادر بها على المطلوب من انفراج أمني وإصلاح سياسي ومطالب سياسية ينشدها الناس لتحقيق المواطنة، تجعل منك موظفاً في طاعة ولي الأمر، إنك تقدّم خبرتك بالتكوين الثقافي لهذه الجماعات المنقوصة مواطنيتها، لتقول لولي الأمر أنا سأكفيك أمرهم، طال عمرك، فأنا أعرفهم جيّداً وخبرتي سأقدّمها بمخرجات ثقافية بالعنوان الثانوي لطاعة ولي الأمر، كما يقولون في كتبهم الأصولية.

يتحقّق لك الأمن - يا صديقي - ليس بقدر ما في الدولة من قوانين ودستور، بل بقدر ما تكون أنت في طاعته وآلته وأبراجه العاجية، وبقدر ما تنال من خصومه السياسيين.

صديقي حسن،
أختم لك رسالتي بقصة ظريفة، قرأتها في كتاب «صيد الخاطر» لابن الجوزي، وعليك أن توظّف مدبجاتك الثقافية التي تلوتها علينا، في قراءتها: «رأيت رجلين كانا في بداية أمرهما على غاية ما يكون من الزهد والصلاح وإنكار المنكر، فألحّ عليهما الفقر، فداخلا السلطان بنوع تأويل، وقبلا منه لمكان الحاجة، فما زالت الأمور تترقى بهما إلى أن حُكي عنهما استحلال القتل للمسلمين بالتأويلات الفاسدة، وكلاهما أهلك عاجلاً، فاتعظت بهما…».

جريدة الأخبار اللبنانية

أضيف بتاريخ :2022/01/18

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد