عن الهجرتين والفتح العظيم
لم يكن في تاريخ الإسلام من نقطة انعطافٍ أكبر من الهجرة، ولذلك اختارها المسلمون ليبدأ بها تاريخهم المجيد.
إنه الحدث الذي نقل الرسالة من دعوةٍ عقائدية يبشر بها الرسول القبائل العربية، فيتألب أغلبها على حربه، ويناصبه قومه العداء، إلى دولةٍ ذات حدود ووجود. فلم يمر على الهجرة غير عامٍ حتى تشنّ عليه القبائل سلسلةً من الحروب، التي تنتهي بصلح الحديبية العام السادس للهجرة، حيث جاء المسلمون معتمرين لدخول مكة، فمنعتهم قريش. وكان الصلح بشروط، منها أن تضع الحرب أوزارها عشر سنين، وأن يعود المسلمون للعمرة العام المقبل، ويُترك الخيار لبقية القبائل للالتحاق بأيٍّ من الفريقين.
بعد عامين، سقطت الهدنة بسبب اعتداء حلفاء قريش على حلفاء المسلمين، فجهّز الرسول (ص) جيشاً قوامه عشرة آلاف لدخول مكة، وسُمّي بـ»الفتح الأعظم».
دورة حياة كاملة، بدأت بالهجرة وانتهت بالفتح، ليبدأ فصلٌ جديدٌ من حياة العرب والعالم. فهناك رسالةٌ سماويةٌ جديدةٌ نزلت لتُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتبشّر بالعدالة الاجتماعية، ومحاربة التمييز والطبقية والفساد في الأرض. كانت وعداً وأملاً كبيراً للشعوب.
خلال ربع قرن من رحيل صاحب الرسالة، حاول الأمويون تحويل تجربة الخلافة إلى إمبراطوريةٍ تقوم على ثنائية المال والسيف. ملكٌ أقيم على سياسة القهر والغلبة، وعدم الاكتراث إطلاقاً لرأي الناس. وسرعان ما تبخّرت تلك الآمال الكبيرة، بولادة أمةٍ جديدةٍ تحكم بالعدل والإحسان والقسط وإيتاء ذي القربى، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والعدوان. ووجد حفيد الرسول نفسه أمام مسئولية تاريخية كبرى، لتقويم هذا الوضع المنحرف وإيقاف ذلك الانهيار.
لم تكن حركة الحسين (ع) مغامرةً أو قفزةً في المجهول، ولم يكن شخصاً لا يعرف مواقف القبائل وموازين القوى في عصره، بل كان صاحب بصيرةٍ وموقف ودين، في عصرٍ قلّ فيه الديّانون.
بعد إعلان وفاة الحاكم السابق وتنصيب الحاكم الجديد في الشام، تسرّبت الأنباء عن إرساله جنوداً لاغتيال الحسين. وكما خرج الرسول من مكة إلى المدينة بعدما تآمر عليه المشركون لقتله قبل خمسين عاماً، خرج حفيده من المدينة لاجئاً إلى مكة، المركز الروحي للمسلمين، حيث ستلتقي القبائل في موسم الحج القريب.
كانت أوضاع العراق تغلي، وكان الحكم الأموي حريصاً جداً على تشديد القبضة الأمنية لئلا تفلت الأمور بعدما استتبت له عشرين عاماً من الحكم الخانق العنيف، منذ مقتل الإمام علي (ع). وتلقّى الحسين عشرات الآلاف من الرسائل تدعوه للمجيء إلى العراق ليمسك بالأمر.
الكثير من المقرّبين من الحسين نصحوه بعدم الذهاب للعراق، من بينهم عبدالله بن عباس (والي البصرة أيام علي)، وعبدالله بن جعفر زوج زينب، وآخرون. والمؤكّد أن الحسين كان يدرك إمكانية انقلاب الأمور، حتى لو لم يتلق أية نصيحة، فقد عاش أكثر من خمس سنوات في العراق أيام ولاية أبيه، وخبر جيداً أوضاع مجتمع الكوفة وتقلباته، ومع ذلك أصر على المضي إلى العراق، ولم يستمع لنصيحة من نصحه بالتوجه إلى اليمن ليحتمي بجبالها، في بيئة متعاطفة مع قضيته وأهل بيته وكارهة لأعدائه الأمويين.
كان يرى الأمة تسير سريعاً على طريق الانحطاط وترسيخ التبعية والاستعباد، بعد أن فقدت مناعتها في مقاومة الظلم والانحراف. كان يرى إرث جده ونضاله ومبادئه تضيع تحت عجلات الثورة المضادة، بقيادة حاكم غرّ لا تتوفر فيه أدنى مقوّمات الحاكم المسلم العادل الرشيد.
معاصروه تخلّوا عنه وأسلموه لمصيره، وطوال طريقه إلى الأرض الموعودة في كربلاء التي تمتد 1400 كيلومتراً، لم يجد من بين الملايين غير سبعين رجلاً، كانوا هم كل أنصاره، وخلاصة الأمة وضميرها.
لم يفهمه جيله، أو لم يشأ أن يفهمه. كان يتكلّم عن الهجرة، مستلهماً طريقة جده العظيم، وكان يحدّثهم عن الشهادة والفتح: «من لحق بي منكم استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح».
سلامٌ على سيد الشهداء وسليل خاتم الأنبياء.
الكاتب: قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية.
أضيف بتاريخ :2015/10/20