حسن التدبير لا التقشف
عبدالله عبدالكريم السعدون ..
في الأمثال الشعبية الكثير من العبر، سمعت من والدتي رحمها الله مثلاً شعبياً تردده كلما رأت عملاً فيه حسن تدبير وتوفير، يقول المثل: "مدبر في الدّار خير من ألف حدّار" والمعنى أن من يحسن تدبير الأمور في بيته ويستثمر كامل طاقته في البناء خير من ألف مسافر يبحث عن الكسب خارج الوطن.
وكان أهل نجد بالذات وبسبب الحاجة والجوع يذهبون في رحلات طويلة إلى الكويت والعراق ومنهما إلى الهند، أو إلى الشام وفلسطين ومصر، واليوم وبفضل ما أنعم الله به على المملكة من خيرات صارت الهجرة عكسية أي من تلك الدول إلى المملكة.
حسن التدبير يعني أن نسعى جاهدين لننتقل من العالم الثالث إلى الأول، ومن الدولة الريعية إلى الدولة المنتجة التي يشارك فيها المواطن بالرأي والإنتاج كما هو في كل مجتمع مدني منتج، وأن يفخر المواطن بإنجازاته، ويحرص على تطبيق الأنظمة وعدم العبث بالممتلكات أو تدمير البيئة، والحد من حوادث الطرق المميتة التي تحتل فيها المملكة مرتبة متقدمة.
حسن التدبير يتضح من سلوك أفراد المجتمع ومدى إنتاجيتهم، ومن رقي مستوى الخدمات والاهتمام بجودة التعليم والصحة ونظافة البيئة، وهذه الممارسات لا تأتي بين يوم وليلة ولا تأتي بإزجاء النصح والوعظ والتوعية، لكنها نتاج متابعة وتطبيق أنظمة، وتدخل مباشر من الدولة لما ينفع المواطن وتقليل التكاليف المبالغ فيها لتنفيذ المشروعات والاستشارات، وما تدفعه الدولة من فواتير باهظة بسبب إهمال المواطن لصحته وصحة أبنائه، أو إهمال تعليمهم وتربيتهم أو ما تسببه حوادث الطرق من مآس نتيجة الوفيات والإعاقات والتلفيات.
حسن التدبير يعني تطبيق مبدأ الوقاية، وتنفيذ الأنظمة بحزم وبصفة مستمرة ما يقلل التكاليف الباهظة للرعاية الصحية، ومكافحة الفقر وما يفرزه من أمراض خطيرة، وتقليل تكاليف صيانة المنشآت بالتركيز على تطبيق الجودة، والتصدي للنتائج الكارثية لتدهور البيئة.
وللتوضيح أسوق الأمثلة الآتية:
أولاً- الرعاية الصحية على سبيل المثال تقتطع ما لا يقل عن 10 إلى 15% من الدخل القومي لكثير من الدول، وتزداد التكاليف الصحية مع قلة الوعي بنتائج الممارسات غير الصحية كإهمال الرعاية الصحية الأولية والتدخين والسمنة وحوادث الطرق، ولا يقتصر الضرر على النواحي المادية فقط، لكنه يمتد إلى معاناة المواطن مع المرض ومع كثرة الحوادث بسبب عدم تطبيق الأنظمة وعدم الأخذ بوسائل السلامة.
حسن التدبير يعني تطبيق المعايير الدولية للرعاية الصحية على مستوى الأسرة والمدرسة، ما سيكون له آثار إيجابية على الحاضر والمستقبل، وعلى سبيل المثال فقد وفرت المملكة الكثير من التكاليف المادية والمعنوية حين جعلت تطعيم الأطفال إلزاميا، كما قللت من الأمراض الوراثية بتطبيق الكشف الطبي قبل الزواج وجعله شرطاً لإتمام عقد النكاح، ولو ترك الأمر للمواطن دون إلزام ومتابعة لما نجح المشروع رغم أهميته، وللرقي بالخدمات الصحية فوائد كثيرة منها الفوائد الاقتصادية والتي تقوم عليها صناعات كثيرة وتوفر وظائف مجدية، وفي بعض الدول تعد الرعاية الصحية من أهم الأنشطة السياحية التي تجذب السائح من داخل البلاد وخارجها، بل إنه توجد دول تعتمد السياحة فيها على الخدمات الصحية.
ثانياً- من المظاهر المهمة التي تدل على بعد النظر وتقدم الأمم هو اهتمامها بالبيئة، حيث تضع معايير صارمة لحماية البيئة والحفاظ على مكوناتها من أشجار وحياة فطرية، وجعل الأولوية لصحة المواطن والمقيم من حيث نظافة الماء والهواء وتوفر الحدائق الكبيرة في وسط المدن والقرى، مع الحرص على نقل المصانع بعيداً عن الأحياء السكنية، وتشجير الشوارع والمنازل بالأشجار المناسبة.
وتقدم الأمم لا يقاس بكثرة أسواقها المركزية ولا بمبانيها الشاهقة فهذه تبنى خلال أعوام، لكنه يقاس بوعي المواطن وحسن سلوكه ومحافظته على البيئة، وهذه بحاجة إلى جهود كثيرة لزرع ثقافة مختلفة يشارك فيها البيت والمدرسة ووسائل الإعلام، كما أن لمجلسي الوزراء والشورى دوراً في سن القوانين ومتابعة تنفيذها.
البيئة النظيفة والمسطحات الخضراء ليست ترفاً، بل إنها من أهم أسباب التقدم الاقتصادي أيضا حيث تشجع المتنزهات على السياحة البيئية، ويجد المستثمر المحلي والأجنبي ما يشجع على الاستثمار في البلد، ولهذا وضع رئيس وزراء سنغافورة السابق "لي كوان يو" جل اهتمامه في خلق بيئة نظيفة وجميلة في سنغافورة، ولهذا استقدم الخبراء واستنبت الأشجار المناسبة واستخدم التقنية حتى أصبحت سنغافورة حديقة جميلة بعد أن كانت مستنقعات آسنة، وكان الناس يعبثون بالحدائق ويقتلعون الأشجار التي تزرعها الحكومة إلى أن سنت القوانين وأصدرت الجزاءات الرادعة وتم تطبيقها بكل إصرار وحزم.
حسن التدبير لا يعني التقشف الذي تتضرر منه الطبقة الفقيرة وتتآكل معه الطبقة المتوسطة المنتجة، لكنه التركيز على تنويع مصادر الدخل وزيادة الاستثمار في التعليم الجيد وفي تدريب رأس المال البشري ليرتقي بصناعة الخدمات التي تعد من أهم الصناعات التي تعزز الاقتصاد وتخلق ملايين الوظائف المجدية، كما أنها ترسم الوجه المشرق لما يجب أن تكون عليه المملكة أمام العالم ومن خلال رؤية المملكة للعام 2030.
جريدة الرياض
أضيف بتاريخ :2016/07/20