السياسة والثقافة والأيديولوجيا
حبيب فياض ..
غالباً ما تنطوي العلاقة بين «المعرفة» و«الأيديولوجيا» على تنافر يشبه ما هو كائن بين الحرية والقيد، حيث لا حدود أمام الأولى تقف عندها، ولا قوالب نهائية تتشكل من خلالها، وهي تتطلع دوماً إلى الحقيقة التي تتلقفها أنى وجدتها؛ فيما تسعى الثانية دوماً إلى تسخير المعرفة كوسيلة في خدمة المعتقد والحقيقة المحددة سلفاً، وهي على خصومة دائمة مع الخطوط الحمراء التي لا تسمح بالاقتراب منها في التفكير والتعبير.
الإشكالية هذه تبلغ ذروتها لدى المثقف المؤدلج عندما يريد الجمع بين الأمرين، أي بين ما يراه نظرية قابلة للنقد والتقويم، وما تراه الجماعة حقيقة مصنفة في خانة التابوهات المتعالية، حيث لا يخلو الأمر من تنازع جواني بين رؤية فردية تقوم على التأمل وأخرى جماعية مبنية على الاتباع. فالثقافة فضاء مفتوح على شتى أنواع المعرفة القابلة للتبدل والاختلاف، فيما تقوم الأدلجة على إخضاع المعطيات المعرفية بطريقة انتقائية، يتم من خلالها الأخذ بالمطلوب الذي يخدم المعتقد أو القضية ورفض كل ما سوى ذلك.
في ظل هذه الثنائية، لا يعود مسموحاً للمثقف المنتمي النظر إلى الهوامش برغم بقائه وفياً للمتن، حيث لا تُثمر جهوده للمواءمة بين الاعتقاد الجمعي، الذي يشترك به مع الجماعة، وخصوصيته الثقافية التي تتيح له التموضع كباحث بعيداً من ضجيج الجموع، فيلجأ إلى حفظ صدقيته من خلال إيمانه بكل ما يقول حتى لو لم يتفوّه بكل ما يؤمن. ذلك أن قليلاً من اختلاف المثقف عن الجماعة سيصنف في خانة الكثير من الاختلاف معها. كما أن وفاء المثقف للأيديولجيا في مبادئها لا يغفر له «خطيئة» الخروج على بعض تفصيلاتها. فمن سمات سلطة الأيديولوجيا القبول والرفض دفعة واحدة وبالمطلق، فهي تفضل الانقياد على الوعي، والطاعة على النقاش، والولاء على الكفاءة.
ليس بعيداً عمّا تقدم، تندرج الإشكالية ذاتها في إطار التنظير السياسي والممارسة السياسية. وليس من قبيل المصادفة أن يفتقد المشهد العربي العام أواصر العلاقة بين السياسة والثقافة. غالباً ما يدير المثقف ظهره للسياسة متعالياً عن ملاحقة متاهاتها وألاعيبها، ومنصرفاً إلى الخوض في الحلول العميقة. وبالمقابل، غالباً ما يعمل السياسي على تطويع المثقف وإدخاله في بطانته، أو تهميشه وتجاهله. السياسي يكره الثقافة بوصفها عاملاً أساسياً في تفشي الوعي الذي يفضح دوره وموقعه. لهذا يفتقد السياسي، بالعموم، عمقا ثقافيا، كما يفتقد المثقف درايةً تامةً بفنون السياسة ومجرياتها. ذلك كله يفضي في نهاية الأمر إلى المراوحة بين ثقافات نظرية تحلق في فضاءاتها البعيدة عن الفعل والتأثير، وسياسات ضحلة تستند إلى الكثير من الجهل وتمارس ما لا حد له من التجهيل.
يقوم التباعد بين السياسة والثقافة على التنافر بين سلطة القوة وسلطة المعرفة. ستظل الأولى في حال تفوق على الثانية ما دام الوعي يفتقد الإرادة الجمعية، وما دام الانحياز السياسي مشوباً بمعوقات من قبيل التعصب والمذهبية والولاء للزعيم ظالما كان أو جهولاً.
صحيفة السفير اللبنانية
أضيف بتاريخ :2016/08/13