كفاية دلع
أمين طلال ..
كم من موظف لا يسحب من الصرافات بعد اليوم الخامس من كل شهر، إنما يسحب على الأهل والأصحاب؟، ولو لم تكن جدران البيوت كاتمة لما يدور فيها لهالنا منظر الزوجين وهما يحطمان أحلامهما لتوفير مصاريف البيت.
وبلغة الأرقام، فإن متوسط دخل الأسرة الشهري رغم أنه لا يتجاوز الـ4000، إلا أننا سنتفق مع تقارير هيئة الإحصاء بأنه 6000 ريال.
حسنا، فواتير الكهرباء زادت بنسب تتراوح بين 29،6% إلى 44،9%، والبنزين زاد بنحو60%، وتكلفة المياه زادت بنسب تتراوح بين 167% إلى 4238%، وهنالك نسبة ارتفاع المواد الغذائية والإيجارات.. إلخ.
الآن، ومن بين كل هذه الأرقام، من يستطيع أن يستخرج وجها واحدا من أوجه الرفاهية والدلع، التي يعيشها المواطن، فله الأحقية أن ينال جائزة نوبل دون ترشيح.
لكن يبدو أن الأمر لا يحتاج إلى عبقرية ولا إلى ذكاء أو حتى منطق، إنما يحتاج إلى انفصال تام عن الواقع، إلى عقل يعيش في عزلة تامة ليخرج من عزلته بعبارة "كفاية دلع" التي لا تقال هنا كوصف، إنما هي أقرب لكونها شتيمة، يتفضل بها إنسان غارق في الرفاهية حتى أذنيه، إما موظف محترم يستلم مرتبا شهريا بمئات الألوف، ويحظى بمميزات ومكافآت وبدلات ورحلات مكوكية، والكثير من الأشياء التي لا يستطيع أن يحلم بها المواطن، وإن أراد، أو تاجر يملك في رصيده الملايين والمليارات والقصور الفارهات واليخوت ويستحقر سيارات "رولزرويس" كونها لم تعد على مقاسه، وليس المقام هنا مقام حسد إنما مقام عتاب وحساب، فما المقابل الذي جناه الوطن نظير كل هذه الرفاهية؟.
كأن الذين تفضلوا بشتم المواطن بتوصيف "كفاية دلع"، لم يجدوا ما يشتمونه به إلا نمط الرفاهية الذي يحظون به تحديدا، كأنهم حين تلفتوا يمينا وشمالا ولم يجدوا تهمة تناسب المواطن، قاموا بخلع ملامحهم وألقوها عليه، أو ربما خلف هذه الشتيمة علل ودوافع أخرى الله بها عليم، أو ربما تكون العلة في المواطن حقا، كونه ينغّص عليهم نمط حياتهم المعتاد، بمجرد وجوده في الحيز الجغرافي نفسه، فمن المعلوم بالضرورة أن أنفاسه تعكر صفو حياتهم، وأن صوته طارد للعصافير المعششة في حدائقهم الغنّاء. لا أدري وربما لن أدري أين العلة بالضبط!، إلا أن الأكيد أن أحدنا يستفز الآخر عن عمد.
والعلة الأخرى التي ربما لن ندرك دوافعها، هي رؤية إنسان يحظى بحياة كريمة قد أغناه الله من فضله، ثم يتلثم ويتسلل في منتصف الليل، بينما موظفو البلديات والأمانات نيام ليستولي على جزء من الشارع العام ليضيفه إلى حديقته، أو يستولي على حديقة عامة ليضيفها إلى قصره، ما الدافع هنا وما العلة لا أدري! هل يريد التقليل من عدد المطبات والحفر في الشارع مثلا؟ أم يريد حماية خشاش الأرض من وقع أقدام الأطفال وهم يركضون في الحدائق العامة؟ أم يريد توفير بيئة طبيعية للكتاكيت وفراخ البط؟
في المحصلة، ربما تكون دوافعه نبيلة حقا، ونحن من يسيء الظن!.
عموما، ومن باب الإنصاف في القول، لا بد من الاعتراف بأن المواطن كائن مدلع، لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، إن سكن في خيمة طالب ببيت طين، وإن تحصل على بيت طين طمع في بيت مسلح، وإن سكن في بيت مسلح قدّم على تصريح لبناء دور ثان، وفور حصوله على التصريح تركض البنوك خلفه لتغرقه في الديون، وغالبا سيغرق، وطبعا هنالك مواطنون مرفهون بشكل أكبر لا يملكون شيئا، ويطلق عليهم "المستأجرون" ونسبة هؤلاء 70%، الخيارات أمامهم متعددة كأن يستأجر أحدهم شقة من 3 غرف بـ30 ألفا أو غرفتين بـ25 ألفا، ورغم هذا الترف في العرض يعترضون ويتململون!
هنالك أيضا الدلع الوظيفي، فأحدنا لا يكاد يحتمل رؤية 3 كائنات في بيته بمسمى أطفال، هذا يقفز ويركض في الوقت نفسه، وهذا يصرخ وهو يتدحرج على الأرض، والثالث يرسم على جبهة أخته منظر غروب الشمس، ثلاث عينات بشرية طفولية تفقد الرجل الحكيم صوابه، والمعلم في المرحلة الابتدائية يتعامل في المتوسط مع 25 حالة من هذه النوعيات يوميا، أما في المرحلة المتوسطة والثانوية فيتطور الحال بالمعلم إلى أن يفقد إحساسه بالمكان تماما، رغم كل هذا المجهود الميتافيزيقي الذي يؤديه المعلم، لا يحظى إلا بالراتب فقط بلا أي بدلات و"يخب عليه بعد".
لكن الجميل في كل الموضوع، أنه كلما قام أحدهم وصرخ "كفاية دلع"، تنتشر في مواقع التواصل صور ومعلومات عن عمليات "بلع" مهولة قام بها أشخاص، ومؤخرا بعد قيام عضو في مجلس الشورى بترديد عبارة "كفاية دلع"، سأنتظر مع المنتظرين فتح ملف مجلس الشورى ككل، وهو ملف ضخم للأمانة، سيقال فيه مثلا: إن عضو مجلس الشورى يتقاضى راتبا بإجمالي سنوي يبلغ قرابة الـ400 ألف ريال، يضاف إليها 100 ألف بدل سكن، هذا غير الـ300 ألف عند التعيين، وتذاكر السفر درجة أولى، وأوامر العلاج في أرقى المستشفيات، والإجازة السنوية التي تصل إلى 60 يوما.
نعم، سيردد الكثيرون "اللهم لا حسد"، لكن ستتردد أيضا أسئلة على شاكلة: ما المقابل؟ وما النجاحات والإنجازات التي خرجت من مجلس الشورى وأقنعت المواطن "المدلع"؟
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2016/08/17